في استعراض لتاريخ المعارضة العراقية النضالي ضد الحكم البعثي التسلطي، لا يمكن تجاوز حقيقة بدأ نشاطها الملموس وثبات وجودها الملاحظ على الساحة السياسية العراقية بعد تكشف نوايا الحزب لتدمير العراق، والمنطقة بداية السبعينات ودخوله الحرب مع إيران بداية الثمانينات (ولو بشكل محدود). ولا يمكننا إغفال ما قامت به بعض فصائلها المتمثلة بالتيارات الإسلامية والاتجاهات الماركسية من أعمال بطولية، ولا يمكننا نسيان آلاف من أعضائها دفنوا أحياء في منطقة الثرثار، والبصرة، والنجف الأشرف، والحلة أو زهقت أرواحهم في دهاليز الأجهزة الأمنية، لكننا ومن ناحية أخرى نتذكر جيدا أن النشاط المعارض قد تبلور بشكل أكثر فاعلية بعد غزو صدام للكويت عام 1990 ومن ثم هزيمته في حرب الخليج الثانية عام 1991، وهو نشاط عدَّ في واقع الحال نقلة نوعية في حياة العراقيين السياسية والاجتماعية، اجتذبت أعدادا من الوطنيين الذين امتهنوا السياسة وغير الممتهنين لها والراغبين بالعمل جديا للتخلص من بؤس النظام ودكتاتوريته المقيتة اللذين توزعوا على أنشطتها التقليدية (إسلامية، وقومية، ويسارية، ولبرالية) تبعا لتكوينهم السياسي ووجهات نظرهم في التغيير وإعادة البناء المستقبلي. 

إلا أن وتائر العمل المعارض في العراق لم تتطور بشكل يتسق وجهد العراقيين المبذول للتخلص من النظام من ناحية وحجم التدمير الحاصل للمجتمع العراقي من ناحية أخرى، فكانت النتيجة كثرة في أعداد الفصائل المعارضة أو ما يمكن تسميته بالتضخم الكتلوي مع ضعف أو عدم تأثير الفعل الموجه للتغيير، وتشتت الجهد الميسور لتحقيقه على مساحات شاسعة من العالم، وهي على وجه العموم نتيجة حصلت لعدة أسباب أهمها: 

1. إعطاء صدام بعد الحرب الخليجية الثانية، والانتفاضة فرصة إعادة تنظيم قواته، وأجهزته الأمنية التي ركزت كل جهودها لأغراض القتل، والتدمير، والترهيب، والمطاردة، والتهجير، وسحق الأفعال والنوايا المعارضة على أساس الشك وسرعة رد الفعل، فكانت ضربة قوية للنشاط الداخلي المعارض أدت إلى تفتيت بعض أركانه وتهجير النشطين في إطاره  إلى الخارج، كساحة للعمل لم تتهيأ فيها الفصائل المعارضة القائمة لاستيعاب أو استقطاب هذا العدد بسبب ضعف نشاط البعض منها أو بسبب إصابة البعض الآخر بداء المغالاة بالشك والتخوف من الاختراق (أمراضا زرعها صدام وأجهزته الأمنية في تفكيرهم)، فكانت المحصلة انطواء وعزلة الكثير من العراقيين المخلصين أو اتفاقات تعقد بين القليل منهم تبعا للمعرفة والثقة المتبادلة لتكوين تيارات وفصائل جديدة يعتقدون انها قد تعبر عن توجهاتهم وأهدافهم.

فأضافوا لما هو موجود أعدادا أخرى على حساب مبدأ تركيز الجهد. وهذا مبدأ يمكن تعميمه على مجريات التحرك السياسي في الداخل بعد عملية التغيير.

2. أدت طريقة فرض الحصار واستمرار بقاءه إلى الاختلال بترتيب أولويات العراقيين وتحديد أهدافهم الوطنية (في مرحلة ما قبل التغيير) بعد أن توجهوا نتيجة للتعسف في تطبيقاته وبكل قواهم إلى توفير قوت يومهم والتفكير بكيفية تأمين غدهم لمستوى لم يعد لديهم مزيدا من الوقت للعمل المعارض، ولم يبق في عقولهم مجالا للتفكير بالعمل في إطاره، عندها خسرت المعارضة العراقية القاعدة الشعبية العريضة لديمومة عملها وفعل تأثيرها داخليا، وخسرت فرص يمكن أن تكون متاحة للقاعدة في التأثير على وحدة القيادة المعارضة وديمقراطية قراراتها وتحسين قدرتها على التأثير، وبالنتيجة أصبحت المعارضة العراقية في معظمها تتسم بما يمكن تسميته بمعارضة الصفوة أو القادة، ووجودهم بهذه الطريقة أدى إلى توجههم لتشكيل فصائل مضافة يضنون أنها يمكن أن تستوعب طموحاتهم الشخصية بعيدا عن إعطاء القاعدة الجماهيرية دورا في التأثير والتعديل والتطوير فكريا وتنظيميا.

وبالمحصلة كان هناك المزيد من الأرقام على حساب وحدة الفعل المعارض.

3. كان للعامل الدولي هو الآخر تأثير بالاتجاه السلبي على وحدة المعارضة العراقية وقوة تأثيرها وتقبل وجودها، إذ أن التعقيد الحاصل في ساحته عربيا، وعالميا أدى إلى أن يبقي الغرب على صدام لفترة طوية ورقة للتعامل الإقليمي إلى حين، وأدى إلى أن يفسر العرب هذا الإبقاء خطوطا حمراء في التعامل مع واقعه، فأصبحوا جميعا حذرين من ردود أفعاله غير العقلانية.

أو من ردود أفعال الغرب غير الواضحة ، بالإضافة إلى عدم رغبة العرب في خلق واقــع سيــاســي "معارض" على أرضهم تسجل فيه كثيرا من النقاط في وعي الأبناء التي يمكن أن تنعكس آثارها سلبا على حياتهم غير المستقرة، وعلى هذا الأساس أحجم غالبية العرب عن استقبال العراقيين كمعارضين أو حتى لاجئين، ودفعوهم للتوجه إلى الغرب كحياة جديدة ومجتمع شاسع جديد تبعثروا فيه، وبحسب أماكن تشتتهم ومحاولاتهم لتكوين تجمعات قيمية عراقية، كانت محاولات الصفوة منها تكوين تنظيمات معارضة انحسرت نشاطات قسم منها تدريجيا بالاتجاهات المهنية أو الإقليمية وحتى العشائرية فزادوا على موجودها أرقاما أخرى دون أن يحصلوا على إمكانية التأثير على فعل التغيير أو حتى الدفاع عن تطلعاتهم.

4. إن لموقف بعض الفصائل المعارضة العراقية العريقة (إبان مرحلة ما قبل التغيير) الخاص بتقييد الانتماء والعمل بين صفوفها تأثير بالاتجاه المضاد لوحدتها أيضا.

إذ رأى اليساريون منها على سبيل المثال أن القادمين من أصول عشائرية عراقية ومن بيوت دينية معروفة رجعيين لا يصلحون مناضلين ثوريين مع رفاقهم المتمرسين في الكفاح ضد الفساد والقيم البالية.

ورأى القوميون منها أن العراقيين من أصول غير عربية أو الذين يطرحون مشروع العراق أولاً غير مؤهلين للقبول في صفوف المكافحين لبناء العراق العربي التقدمي.

والاشتراكيون هم أيضا لم يوافقوا من رأى في الاشتراكية تطبيقات صعبة أو غير مجدية لعراق ما بعد التغيير وحاولوا تجاهل وجودهم في أن يكونوا من بين الساعين لإعادة بناء العراق الديمقراطي.

ورأى عديد من الإسلاميين في العلمانيين إعاقة لجهودهم في إقامة النظام الإسلامي في عراق المستقبل، وبالتالي لا ينبغي التحالف معهم لإسقاط النظام الكافر وكذا إعادة البناء.

والعلمانيون أنفسهم لم يستطيعوا التخلص من النظرة الضيقة في التعامل مع الجهد المعارض إذ استبعد غالبيتهم إمكان التفاهم مع الإسلاميين أي كانت توجهاتهم.

وما زال العديد من المدنيين السياسيين ينظرون إلى العسكر نظرة نقدية إذ يحملونهم فيها تبعات أخطاء النظام.

كما إن العديد من المعارضين العسكريين لم يتناسوا قدراتهم ومناصبهم القيادية السابقة ولم يفرقوا بين الماضي والحاضر فباتوا يعزلون أنفسهم أو يعتبوا هم أيضا على المدنيين.

والمذكورون جميعا يشككون في نوايا البعثيين، والعسكريين الذين كانوا موجودين في الخدمة والمتقاعدين، ومنتسبي الأجهزة الأمنية  التائبين، الذين أدركوا الحقيقة وقرروا التخلي عن النظام والعمل في صفوف المعارضة، ويعزلون كبار موظفي الدولة وأبناء بعض المدن العراقية الذين اتخذوا نفس القرار بحجة كونهم من المستفيدين أو الداعمين للنظام السابق.

وبالمحصلة كان هناك خلل أو قصور في الرؤيا، وتأخر في النضج الحضاري، التقت معالمه مع الموروث الفكري العراقي ذي الأصول المتعددة مذهبيا، ودينيا، وقوميا، وحضاريا، وسياسيا، في ظروف خاصة تسببت ليس بتعدد القوى السياسية فقط، بل وبتكوين اعتقاد خاطئ  في داخل العديد من فصائلها قوامه أن كل واحد منها هو الأصوب في الرأي وصاحب الحق الوحيد في تنفيذه.

عندها كثر أصحاب الحقوق في كتل معظمها غير قادرة على الدفاع عن حقوقها، فزاد التضخم الكتلوي، وتبعثر الجهد وقل تأثير الفعل الموجه ضد النظام قبل التغيير، وسيقل تأثيره إبان عملية إعادة البناء الجديد للعراق الديمقراطي.

إن الواقع المذكور في أعلاه لا يمكن تعميمه منطقيا على جميع الفصائل السياسية العراقية التي قطع القليل منها أشواطا متقدمة في التنظيم وحسن الأداء سياسيا وميدانيا، لكنه ومن الزاوية الشمولية ينظر إليه واقع يعبر عن حالة قصور عامة ينبغي التنبه إليها والسعي إلى إيجاد الحلول المناسبة لجوانبها الرئيسية من خلال:  

1. الاستيعاب الشامل للعراقيين الراغبين في العمل الخاص بإعادة البناء، المؤمنين بوحدة العراق، وبحق جميع أبنائه في التمتع بحقوقهم القومية والدينية والسياسية في ظل نظام حكم ديمقراطي تعددي. 

2. وضع هدف إعادة البناء وإقامة النظام الديمقراطي التعددي الفيدرالي في أعلى أولويات العمل السياسي، هدف سيكون تحقيقه كفيلا بحل ومناقشة الكثير من التفاصيل والصيغ الفكرية والعقائدية الجاري الاختلاف عليها بالوقت الحاضر.

3. إعطاء الاجتهاد للتعامل مع الواقع الجديد دعم يكفي للإيمان بأن أي من المجتهدين ليس هو المجتهد الوحيد على الساحة، وإن اجتهاده محاولة قد تسبقها أو تعقبها أخرى أكثر صوابا ما دام باب الاجتهاد مفتوحا. 

4. تنسيق جهود القوى السياسية في إيجاد علاقات ودية مع العرب، والمسلمين المجاورين للعراق يمكن اسـتثمارها لإنجاح عملية إعادة البناء.

5. إعطاء فرصة للقوى السياسية التي كونت علاقات عربية ودولية متوازنة  والعمل في مجالها على أساس تبادل الأدوار الذي يصب باتجاه حل المشكلة العراقية على وفق المصالح المتبادلة بعيدا عن الاتهام والتجريح المخل.

6. تخصيص جزء من الجهد السياسي للنضج الفكري الاجتماعي للعراقيين بشكل عام والعاملين في السياسة على وجه الخصوص، لتجاوز بعض الآثار السلبية في العلاقات والتعامل وأساليب الحوار والتنسيق وغيرها أمور سيؤدي النضج فيها إلى تطوير أداء القوة السياسية وتحسين صورتها خارجيا وداخليا.

7. ممارسة الديمقراطية كسلوك في التعامل داخل القوى السياسية، وأسلوب لإدارة الحوارات والمناقشات الجارية فيما بينها، تمهيدا لتكوين استعداد عام لدى المجتمع العراقي لتطبيقاتها المستقبلية.

8. السعي لتوحيد الفعل السياسي من خلال العمل الجبهوي وصيغ الائتلافات والتحالفات التي تعزز من عملية البناء، وتقلل نسب الخسائر خلاله.

9. الدعوة لإزالة آثار الحصار عن كاهل المواطن العراقي، ومنحه الحقوق الإنسانية التي توفر له فرصة التخلص من ضغوط الحياة المعيشية القاسية، وتساعده على التحرر من تقييدات الوعي البغيضة.

10. إن واقع السياسة العراقية المذكور في أعلاه والظروف المحيطة بها كان من بين الأسباب التي دفعت إلى نشأة الائتلاف بصيغته الحالية في التعامل مع الواقع مع تخصيص جهد لاستشراف الصيغ المناسبة لتجاوز الآثار السلبية مستقبلا، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار:

أ. إن الائتلاف يضم شخصيات من العرب والأكراد والتركمان، مسلميين ومسيحيين، شيعة وسنة، عسكر ومدنيين، أساتذة ومثقفين، متدينين ولبراليين، وضعوا نصب أعينهم المساهمة بتحقيق هدف البناء وإنهم وبتنظيمهم الحالي جزء من القوى الوطنية العراقية ومشروع لتوحيد فعلها.

ب. إن المقترحات آنفة الذكر وأخرى  يمكن أن تساعد في تطوير العمـــل السياسي العراقـــي وضعها المنتمون إلى الائتلاف نصب أعينهم، في سعي للتعامل مع الواقع الراهن بنظرة شاملة وروح جديدة أملا في المشاركة بصياغة وتحقيق أهداف العراقيين في إعادة العراق إلى سابق عهده، وقد عملوا لأن تكون جميعها فقرات رئيسة في دستور هذا الائتلاف ونظامه الداخلي وبرنامجه السياسي وسياقات عمل مفاصله التنظيمية، وهي خطوة إلى الأمام، ودعوة دائمة للحوار والائتلاف والتنسيق وتوحيد الجهد مفتوحة لكل العراقيين أفرادا ومنظمات سعيا لإعادة بناء العراق الديمقراطي الموحد.

لندن: 22/6/2000

 

                                                                                     د. سعد العبيدي 

                                                                                     الناطق الرسمي