يعتبر العراق من الدول ذات التاريخ الحضاري العريق، وهو كذلك من الدول التي تمتلك ثروة متميزة في شتى المجالات، وله موقعه الجغرافي الاستراتيجي، وعنده ثروة مائيــــة قلما تتوفر في بلد آخر، وارضه من الجبـــال والسهول الصالحة للزراعة ….الخ من مستلزمات العيش برفاهية ربما تفـوق الاعتيادي بالمقارنة مع الأقران والجوار. لكن غالبية أبنــــاءه وحتى بداية الألفية الثالثة عانوا الفقر، والقهر وعاشوا الاضطهاد بسبب إدارة شؤونهم سابقا من حاكم جاهل، جاحد، متكبر، مريض بجنون العظمة ومن عصابته المجرمة.

قطـبان التقيـا لينفـذا سوية مهمة تخريب وتدمير العراق ماديا وتأخيره حضاريا وكذلك تفتيته اجتماعيا بعـد أن أبلياه بكارثة لا مثيل لها:

فالقتل، والتنكيل، والإبعاد، والتهديد التي استخدمهما صدام للتعامل مع العراقيين، والتفرقة وتكميم الأفـواه والتقييد الفكري التي مارسها النظام ضدهم لخمس وثلاثين سنة كونت سلوكا لا تتناسب استجاباته ومأساة عاشها العراقيون.

فعم على سبيل المثال التبلد واللامبالاة والذاتية، وتفضيل المصلحة الخاصة والنظرة القصيرة والخوف من السلطة وتقديسها قطاعات واسعة من مجتمعنا المنكوب في الوقت الذي غابت عنه قيم التكافل، والإخلاص، والأمانة، والشعور بالمسئولية، وضعفت في إطاره الروح الوطنية، فكانت مأساة اجتماعية وتخريب مقصود عمدت إليه السلطة الحاكمة لإطالة أمد الجلوس على كرسي الحكم واستفاد منه الأجنبي ورقة يلعب بها ويلاعب بها الحاكم، والمحكوم في آن معا:

إذ يلوح بها مجالا لتوحيد المتفرقين ودعم المحتاجين وإسناد الراغبين بالتغيير تارة، فيحصل بضوئها على ما يريد وبسهولة غير اعتيادية من حاكم لم يتبق له هدف غير الدفاع عن كرسي الحكم.

وتارة أخرى يثيرها كإطار للتحاور مع المجتمعين في كنفه ويكرسها سلبيات في أسلوبه للتعامل معهم، فيصيبهم بالإحباط كل مرة، ويدفع بعضهم للانكفاء على ذاتهم ولومها، والآخرين فتستمر الفرقة ويزيد التشرذم ويبقى الحال على ما هو عليه.

وهكذا استمرت هذه المعادلة الاجتماعية لتخل بالتوازن المطلوب لعملية التغيير إلى المجتمع الديمقراطي إلا بتدخل من الخارج رغم أن أحد كفتيها ذات الصلة بالتغيير مهيأة وجاهزة للاستثمار، التي نجد فيها على سبيل المثال:

أن منطقة كردستان العراق خارج سيطرة الدولة المركزية، ولا علاقة لها بالنظام إلا فيما يتعلق بالغذاء، والدواء، والوقود أمور فرضتها سلطة الأمم المتحدة، وبذلك غدت من الناحية الجغرافية والعسكرية ساحة صالحة للعمل من أجل التغيير. 

ونجد أن الجنوب تمنى أهله دون ما استثناء أن تجبر الحكومة على رفع يدها عنهم كما هو حال الشمال أو تضطرب سلطتها في النهار كما هي حالها بعد المغيب ليقودوا طلائع ثورتهم الموعودة نحو التغيير.

ونجد أيضا أن العسكريين لم يعودوا يحترموا عسكريتهم بعد أن أوقف صدام في باب كل ضابط منهم من يعدُّ عليه أنفاسه، ولا أحد من موظفي الدولة يعتز بوظيفته بعد أن جعله صدام متسولا لا يكفي راتبه الشهري لسد حاجيات عائلته، ولا أحد من المسؤولين الحكوميين، وبينهم مسؤولي النظام بات ينعم بنوم هادئ بلا كوابيس، فاصبح المجتمع برمته مهيأ للاشتراك بالتغيير أو دعمه على أقل تقدير.

ونجد أن الرشوة، والمحسوبية، والعشائرية، والطائفية، والإقليمية، وأعمال السرقة، والتحايل، والفساد، والمحاباة، والرذيلة، وخيانة الأمانة والاستغلال، خصائص وسمت جهاز الدولة إبان حكم صدام، فوهن حدا يمهد لعملية التغيير.

ونجد كذلك أن التعب، والإعياء، والبؤس، والشقاء، والشعور بالدونية والإحساس بغياب القانون والعدالة قد عمت غالبية العراقيين، فاضحوا جميعا يدعون من الله عز وجل، ويصلون لأجله أملا في التغيير.

ونجد في ذات الوقت أن العدوانية على السلطة الحاكمة كانت في أعلى المستويات والحقد على الحاكم الفاسق في أعلى سلم الدرجات، والنية في التغيير عند العراقيين أصبحت هي الأخرى أعلى ترتيب الأولويات.

لكننا نجد في كفة الميزان الأخرى اللازمة للتغيير:

أن الأداة القادرة على استثمار الجغرافية واحتواء العسكر، والتعامل مع الشمال الكردي سياسيا كانت غير فاعلة بسبب تشتت المعارضة وغياب الرموز فيها، فخسر الشعب العراقي فرص عديدة للتغيير بجهوده الذاتية.

كما أن القوة الفاعلة للتفاوض مع الأجنبي أو إقناعه على التفاوض النزيه على أساس المصالح، كانت غير موجودة بسبب تفضيل بعض السياسيين لمصالحهم الشخصية على مصلحة العراق العامة أو بسبب ضعف ادائهم فخسرنا والعراق فرصا رغم شحتها تظهر بين الحين والآخر على ضوء المواقف الدولية والإقليمية في المنطقة لدعم التغيير ذاتيا. ومعه انشغل عنا العرب أو ركنونا بل وفضل البعض منهم صدام الضعيف على المعارضة غير المجربة، فخسرنا الصوت العربي الأكثر فاعلية في التأييد من أجل التغيير.

إن القدرة العقلية المؤهلة لتحويل الرغبة المعارضة إلى سلوك معارض، والميل إلى فعل معارض، والدعاء إلى واقع معارض، والنية إلى حقيقة معارضة، والتعب والعدوانية والحقد إلى اندفاع معارض غير كافية بسبب الريبة، والشك التي ابتليت بها بعض فصائل المعارضة أو القصور في القدرة على استقطاب العلماء، والمثقفين، والمختصين العراقيين الذين تفرقوا على أرجاء المعمورة، فخسرنا جزء كبير من الطاقة الواجبة للتغيير.

إن نتيجة اضطراب التوازن الذي قل في كفته الثقل المعارض القادر على التغيير مأساة أخرى كانت مضافة لمأساة شعبنا، عشناها وما زلنا نعيش بعض آثارها، وما يزيد تلك المأساة شدة وبؤسا هو أن البعض منا لم يع أو بالمعنى الأصح لم يكم يرغب في أن يعي حقيقة تؤلمه وهو أكثر المتألمين، لكنه وبكل الحسابات كان مشكل لا يمكن تجاوزه للوصول إلى الطريق الصحيح في النضال من أجل التغيير وبناء المجتمع الديمقراطي وذلك لأن.

- الاعتراف بالواقع والإقرار بأمراض الفردية، والتسلط، والأنا، والخوف والتردد، والشك، والاستعراضية التي نقلها لنا صدام عبر تعامله الطويل مع مجتمعنا والاستعداد إلى تجاوزها هي اللبنة الأولى في بناء الصرح السياسي لعراق ديمقراطي جديد، بناء يكون فيه المجال ملائما للتخلص من كل الآثار السلبية وفيه نستطيع أن نفوت الفرصة على الآخرين في اللعب بنا ورقة رخيصة.

- ولأن الوعي بالمشكلة وإدراك جوانبها يزيد من نسب التضحية في التعامل معها، ويضاعف الرغبة في إعطاء المثال الحسن لتجاوزها ويجسد الاستقامة، والسمو، والنزاهة، والتكافل سلوكا فاعلا للقضاء عليها.

وهذا ما نعتقد أن القوى السياسية العراقية بحاجة إليه لإعادة ترتيب أوضاعها موحدة في الوقت الحاضر، وبعكسه ستبقى بعض تنظيماتها مفككة مبعثرة لا فاعلية لها ولا تأثير، مجرد أسماء على الورق وسيبقى كثير من العراقيين النزيهين خارجها.

وهو احتياج لا يزيد الاعتراف به من خطورة الموقف الذي نحن فيه، بل وعلى العكس من ذلك ستفضي مناقشته إلى تجنيبنا المزيد من الفشل وسيؤدي بحثه إلى الحيلولة دون انهيار ما تبقى من ركائز المعارضة وسيمنحنا الخوض به قوة كنا قد فقدناها بسبب المكابرة والسكوت.

إن هذا الواقع الذي تناولناه من زاوية الخلل بالعمل السياسي العراقي لو أضفنا له الظروف الدولية وما يمثله العراق دولة وثروة وموقعا للقوى العظمى نصل إلى استنتاج أن العمل السياسي العراقي الراهن بحاجة إلى:

1. دفع جديد باتجاه أهداف أكثر وضوحا، خاصة مع الاعترف الدولي بمأساة العراق.  

2. دماء مضافة، وجهود أخرى مضافة، وصوت مسموع لكل العراقيين المتطلعين إلى عراق جديد، المستعدين إلى السير بطريقه.

3. نهج علمي صحيح، وسلوك حضاري صحيح في السبيل إلى تخطي تعقيدات أزمتنا المؤلمة.   

4. العودة إلى العراقية لمقارنة القدرات بالأهداف والطموحات، وإلى الحاضر والمستقبل، عودة ينزل فيها المتفرجون من على التل ليلتحقوا بالأغلبية على سفحه ويكونوا مخلصين، ويلغي المحايدون بموجبها حيادهم ويكونوا مساهمين، ويقرر المستقلون على أساسها فض استقلاليتهم والمناداة علنا بضروة إعادة البناء والاستعداد بالمساهمة فيه، ويتسع بضوئها صدر الفصائل السياسية العراقية التي ثبتتّ على الساحة أقدامها، وقدمت للعراق الكثير في أن تناور بمرونة تتفق ومصلحة العراق فتكون من السباقين.

5. أن لا يضع المناضلون ثمنا لنضالهم من أجل العراق، وأن لا يتسابقوا في الطريق إلى إعادة بنائه من أجل المنصب والجاه، والفائدة المادية. 

وتأسيسا على ذلك كانت خطوات الائتلاف في العمل، والبحث وكتابة الأفكار التي أخذت بالاعتبار كل ما ورد أعلاه.

وفي صيغة التنظيم الذي أريد في جوانبه أن يشعر جميع المنتمين بالانتماء إلى العراق، ويحسوا التوحد والقوة، والتعامل بروح الرفقة، ويعبروا عن الآراء بحرية، وتصاغ في قيادته القرارات التي تنبع من مصالح الوطن، وتجسد صورة العراق المستقبلي.


لندن: 1/5/2000     

   

د. سعد العبيدي 

الناطق الرسمي