عوامل الإعاقة في القضية الكردية واتجهات الحل سياسياً

التطورات التاريخة 

تعد القضية الكردية من أصعب المسائل التي واجهت العراق على المستويات السياسية والاجتماعية، فهي ومنذ ما يزيد على نصف قرن باتت مجالاً للاستنزاف استمرت وتائره حتى وقتنا الراهن بسبب طبيعة الأنظمة السياسية المتعاقبة من جانب ونتيجة لتعدد الاتجاهات الفكرية المصحوبة بالتعددية القومية والعرقية والطائفية من جانب آخر، بالإضافة إلى عوامل التخلف ومصالح الآخرين، الأمر الذي انعكس سلباً على احتمالات إيجاد الحلول المناسبة لها وعلى مستويات تعقيداتها التي ازدادت حدة مع تقادم  الزمن، إذ نرى انه كلما تطور العالم من الناحية التقـنية ومن حيث المساواة واحترام حقوق الإنسان وتطبيقات الديمقراطية تدخل هذه القضية في اشكالات قوامها التناقض والذاتية وقصر النظر ومحاولة فرض الآراء بالقوة حتى بات من الصعب على المواطن الكردي التفكير بالاتجاه الذي يضمن به وطنيته وقوميته والمحافظة على نظامه القيمي بعيداً عن مسلك الحرب وأساليب الدمار التي ابتليت بها منطقة له، أحس مأساتها عموم الشعب العراقي على حد سواء، وهذه أي القضية الكردية مشكلة لم تكن حديثة في الواقع وبذور الصراع في جوانبها قد بذرت بعد تأسيس الدولة العراقية بفترة قصيرة رغم أن الحكم الملكي استطاع تأجيل الصراع ( بشكله المسلح ) أغلب الأحيان لكن المسـؤولين فيه وبينهم الضباط القادة والسياسيين البارزين الأكراد لم يجدوا حلاً دائماً يأخذ بالاعتبار حقوق الأكراد ومستقبلهم الآمن في العراق الموحد، وبدلاً عنه وضع البعض أصابعه في آذانه تاركاً للتيارات والمصالح فرصة التعامل معها، بالإضافة إلى عدم إتاحة الفرصة للعناصر الوطنية المخلصة عرباً كانوا أم أكرادا للتفكير والمشاركة بصياغة الحلول المناسبة، وبالتالي بقيت المشكلة ناراً تحت رماد قابل للتطاير مع أي ريح تأتي من كل الاتجاهات، وهذا ما حدث بالفعل بعد الإحباط الذي صاحب الأكراد أثر فشلهم في الحصول على حل بعد ثورة 1958 الذي أعطى قوة دفع لتأجيج الصراع بدموية أكثر لأسباب مختلفة بينها:

1. إن الحكم الجمهوري يديره العسكريون قليلو الخبرة بشؤون السياسة الدولية والمصالح المتشابكة وطبيعة التوازنات الإقليمية والمحلية المطلوبة.

2. اتجاهات أصحاب النفوذ الأجنبي لسحب الثورة إلى مجالات النزف المستمر لقدراتها المخصصة للبناء والتطوير.

3. يضاف إلى ذلك القصور في عملية إنضاج فكر سيـاسي قومي كردي  مع بدايات الثورة بحيث يكون قادرا على طرح تصوراته العملية للتعامل مع القضية، وكذا إقناع المعنيين في الحكومة بتأييده خاصة وانهم أي مسؤولي الحكومة قد فهموا معظم الطروحات على إنها انفصال، فكانت أعمال التهجير وتمليك الأراضي ودفع بعض العشائر العربية إلى التوسع على حساب العشائر الكردية كرد فعل إنفعالي لذلك الفهم.  

وهكذا أضيفت عوامل تعقيد وبؤر توتر إلى مجمل التعقيـدات والبؤر السابقة يصعب تجاوزها عمليا.

ومـع وصول حزب البعـث العربي الاشتراكي إلى السلطـة عـام 1968 خفـت حدة الصراع أو تأجلت عندما طرح الحزب المذكور بعـض الأفكار المقبولة للتعامل مع هذه القضية، وبها توصل مع قيادة الحركة الكردية إلى بيان 11 آذار 1970 الذي ينص على منـح الأكراد حقوقاً قومية في إطار الحكم  الذاتي، إلا أن الصراع عاود الظهور عسكرياً عندما بينت معطيات الواقع إن السلطة تبتغي من طروحاتها المناورة وتهيئة الفرص أمام الحزب بغية السيطرة المطلقة على مقاليد الأمور، وهكـذا استمر الحزب في تطويق الحركة الكردية، فكانت اتفاقية الجزائر عام 1975 مع شـاه إيران، الطـوق الأكثر شدة، بعد أن مهد لسياسة التبعيث في المنطقة، وهذه حقيقة أكدتها نتائج الأساليب التي اتبعها الحزب ضد القرى والعشائر الكردية وقيادات الحركة ذاتها.

 أما في الحرب العراقية الإيرانية فقد اتجهت القضية الكردية اتجاها آخر حيث شهدت بداياتها مهادنة أو تأجيلاً للصراع بعد أن استجاب البعض من الأكراد إلى دعوة الحكومة لقتال الإيرانيين عندما نجحت في التأكيد على الجانب الوطني من الصراع وبإتهام الإيرانيين بتصدير ثورتهم الى العراق وتهديد استقراره.  

إلا أن طول فترة الحرب وانكشاف الكثير من جوانبها الخفية تسبب في دفع غالبية الأكراد إلى تغيير مواقفهم من الحرب والتحاق العديد منهم بالتنظيمات الكردية المسلحة المناهضة للسلطة المركزية تخلصاً من أوار الحرب أو استثماراً لتطوراتها باتجاه مصالح حركتهم بعد أن أصاب الوهن غالبية القوات العسكرية العراقية المتواجدة على حدود المنطقة الكردية، وهـذا تطور أضاف إعباءً جديد إلى السلطة المركزية التي لم تتعامل مع الموضوع بشكل نزيه، فلجأت إلى المناورات التكتيكية ثانية حتى انتهاء الحرب عام 1988 لتعود بشكل أكثر قسوة وعنصرية باستخدام العمـل  العسكري التـدميري. عندها تجاوزت مطالب الأكراد الحدود القومية والوطنية إلى مستوى طلب الحماية الفردية داخل البيت والمزرعة والمدرسة والسوق تخلصا من إجراءات الإبادة الكيماوية وهدم الدور وحرق المزارع في ظرف أحس فيه الأكراد بالابتئاس عندما وجدوا الدول الكبرى وهي تغـض الطرف عن تصرفات السلطة القمعية معتبرة إياها شأناً داخلياً لا يجوز الخوض بتفاصيله حتى نهاية حرب الخليج الثانية التي تعد ملابساتها مرحلة تطور آخر للحركة الكردية بعد حصولها على الحماية الدولية حسب القرار 688 الصادر عن مجلس الأمن عام 1991 والذي وفر لها فرصة تاريخيـة لتشكيل حكومة محلية وإنشاء سلطة تشريعية وقضائية ومحاولات لصياغة الديمقراطية.

إلا أن انقسام الحركة الكردية إلى تيارين رئيسين هما ( الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) على أسس فكرية محلية واستمرار التدخل الخارجي متعدد المصادر والتأثيرات الجانبية للسلطة المركزية حالت دون استثمار الفرصة لتحقيق أهداف المواطنين الأكراد  في الشمال العراقي.


العوامل الدولية في القضية الكردية 

العراق بحدوده الحالية منطقة استقطاب دولي بسبب موقعه المتميز في الشرق العربي وغزارة إنتاجه النفطي واتجاهاته الفاعلة في التطور التقني والرقي الحضاري ( مقارنة بالمجتمعات القريبة منه ) وهذا يعني أن الدول القادرة في الوصول إليه ستسعى للبقاء فيه والتأثير على سياسته بوسائل متعددة منها إثارة الأزمات ومن ثم التدخل في مجرياتها. وكانت القضية الكردية الأزمة الأقرب مثالا على ذلك لأنها ذات طبيعة متشعبة (عشائريا، ودينيا، وإجتماعيا) وامتدادات متعددة داخليا، إذ يسكن عديد من الأكراد في محافظات أخرى غالبيتها عرب وقليل من العرب يسكنون في محافظات كردية.

وإقليميا إذ يتواجد الأكراد في دول الجوار ( تركيا، وسوريا، وإيران ) وخارجيا يعيش البعض منهم في أوربا هرباً من الحروب المدمرة.

ولأنها كأي حركة وطنية في العالم الثالث بدأت واستمرت بالاتكال على الغير مالياً وسياسياً وتسليحياً، بدءاً  من الاتحاد السوفيتي ( السابق ) وأفكاره الشيوعية الأممية مروراً بالغرب واتجاهاته الليبرالية وانتهاءاً بدول الإقليم ومصالها الذاتية.  

وبهدف إلقاء الضوء على التدخل الأجنبي في مسارات هذه الحركة وأثره على استمرار وجودها سنبدأ وبشكل مختصر مع بدايات الحركة التي حاولت التوجه منها إلى الاتحاد السوفيتي ( سابقا ً) لعدائه المعروف مع الغرب الداعم لحكومة العراق المركزية "الملكية" ورغبته في الحصول على نفوذ له غرباً  باتجاه منابع النفط، إلا أن إصرار الغرب على تحجيم رغباته هذه وعدم  نضج الحركة فكرياً بما يلائم وطروحات الاتحاد السوفيتي والحركات الوطنية آنذاك حال دون تحقيق طموحاتها عن هذا الطريق، وبالتالي وجد قادتها أنفسهم لاجئين فيه أي الاتحاد السوفيتي حتى تغيير الملكية في 14 تموز 1958 الذي أيدها الأكراد شأنهم شأن  باقي العراقيين العرب كجهد وطني ثوري قادر على منحهم الحقوق القومية، لكن ظروف تنفيذه واسلوب إدارته العسكرية غير الكفوءة أحبطتهم على الفور فعاودوا نشاط حركتهم من جديد بدعم النفوذ الغربي الذي هددت الثورة مصالحه في عدة مجالات منها النفط واحتمالات التأثير على استثماراته في المنطقة المجاورة للعراق، وكذلك الوجود السوفيتي واتساع هامش حركته. وكان الأميركان أكثر الداعمين لتوافق دعمهم هذا وأهدافهم الستراتيجية في تطويق الاتحاد السوفيتي وتأسيس تواجد استخباري مرن للتعامل مع باقي دول المنطقة، علما أن الحركة لم تتوقف في تعاملها مع الأمريكيين بشكل رئيسي والبريطانيين والفرنسيين أحيانا بل والتقت في بعض مراحلها مع آخرين يسعون بشكل جدي لأن يكون لهم دور فاعل في أحداث المنطقة ليثبتوا من خلاله وجودهم على الخريطة السياسية لها ويستفيدون منه في حسابات التوازن القلق في المنطقة بشكل عام والعراقيين الثوريين على وجه الخصوص. وهذا الدعم الغربي الذي أفاد الحركة الكردية إعلاميا وسياسيا وعسكريا وماديا لم يكن كافيا لحسم الموقف باتجاه تحقيق مطالبها الوطنية لأسباب بينها أن الغرب بعد أحداث 1958 سعى لاستمرار الأزمة لأن انتهائها يعني خسارة ورقة استنزاف وضغط على الحكومة المركزية لا يودون التفريط بها بالإضافة إلى أن الحل باتجاه تأمين حقوق الأكراد قد يثير مشاكل للجوار التركي ذو الطبيعة الحساسة بالنسبة لهم وكذلك الجوار الإيراني على نفس الخطوط ، وإذا ما كان الحل على النقيض من ذلك، أي باتجاه قمع الحركة الكردية فسيعني قوة للسلطة المركزية غير الموثوق بنواياها وإضطراب علاقاتها الإقليمية والدولية وهما خياران غير مرغوب بهما، يضاف إلى ذلك أن الحركة الكردية ذاتها لم تطرح آنذاك فكرا يتوافق وطموحات غالبية الأكراد ووحدتهم الجغرافية والقومية بالمستوى الذي يقنع الغرب أو يشجعهم على حسم الموقف لصالح حركتهم القومية.

وعلى هذا الأساس كان الدعم الغربي بحدود المحافظة على توازن غير مستقر يؤدي إلى استمرار الصراع بين الحكومة من جهة والحركة الكردية من جهة أخرى، أي في الحدود التي يبقيها قضية قائمة غير قابلة للحسم.

هذا على المستوى الدولي أما على المستوى الإقليمي فهناك أطراف أخرى أقحمت نفسها في الأزمة وتطوراتها مثل تركيا التي ترتبط والعراق بحدود كردية مشتركة أجبرتها على التقرب من أحداثها رغم حراجة موقفها المتعلق بعدم تأييد منح أكراد العراق حقوقهم القومية لاحتمالات انعكاسها على أكرادها من جهة وعدم رغبتها البقاء مراقبا للأحداث وهي الدولة الساعية لتوسيع دورها في المنطقة، وفي متناول يدها ورقة يمكن اللعب بها خدمة لهذا الدور الحيوي من جهة أخرى، عليه تدخلت تدخلاً كان معظمه منحازاً للحكومة العراقية مع هامش مناورة محدود لصالح بعض الفصائل الكردية أحيانا وبما يؤمن مصالحها في التعامل مع أكرادها الذين اتجهوا للمطالبة المسلحة بحقوقهم في السنوات الأخيرة.

وهناك إيران التي ترتبط هي الأخرى بحدود مشتركة يسكنها أكراد من عشائر توزعت على جانبي البلدين منذ عشرات السنين فضلت التدخل في القضية بعد أن وجدها الشاه فرصة مناسبة لاضعاف العراق المجاور والتقرب إلى الغرب المتحضر، عندما كان وكيلاً منفذا لرغباتهم ووسيطاً أميناً بينهم وبين باقي الأطراف في المنطقة، وكان تدخله مناورة تزداد فاعليتها وتنقص تبعا لعلاقاته مع الحكومة العراقية ومصالحه مع الغرب وكذلك احتمالات انعكاسات التعامل مع هذه القضية سلبا على أكراده في المنطقة المجاورة، وهذا موقف لم يتبدل كثيرا بعد رحيل الشاه ومجيء الجمهورية التي وصل الصراع معها إلى مستوى الحرب حيث وضعت فيها المشكلة الكردية مجالا للضغط على الطرف المقابل ( للخصم ) من كلا البلدين المتحاربين، تلك الحرب التي  لم تـنهي الصراع بين الجارين ولم تقلل من اتجاهات التدخل في المشكلة الكردية، وبذا استمر الإيرانيون في توسيع مجالات تدخلهم لمستوى أوجدوا فيه موطئ قدم في إطار التنظيمات الإسلامية في المنطقة الكردية العراقية مع الأخـذ بالاعتبار تقديم الدعم المناسب وبما يحقق مصالحهم الستراتيجية.

أما سوريا التي يتواجد فيها أكراد أقل من العراق والدول الأخرى فقد تدخلت هي أيضا تدخلا حمل في طياته الكثير من النقائض على ضوء علاقتها الفكرية والسياسية مع حكومة العراق وحزب البعث العربي الاشتراكي "الجناح العراقي". ففي الوقت الذي أرسلت فيه قوات عسكرية عام 1963 دعما لحكومة البعث المركزية ضد الأكراد في حينه، انقلبت إلى الضد بعدها مباشرة وفتحت للأكراد أراضيها ساحة عمل سياسي وإداري وأمني دون أيـة تحديـدات، واستمرت سياستها هذه حتى وقتنا الراهن.

إن إلقاء الضوء على طبيعة التدخل الإقليمي سالف الذكر يرينا أنه تدخل فيه من المصالح الذاتية الآنية الكثير مقارنة بالتدخل الغربي ذو الأبعاد الستراتيجية بعيدة المدى، ويبين لنا من جانب آخر أن الاتجاهين ( الغربي والإقليمي ) يلتقيان بالنظرة إلى هذه القضية من زاوية عدم الرغبة في طي صفحاتها المفتوحة لأسباب يعرفها الأكراد قبل غيرهم، ويشير في ذات الوقت إلى كم التعقيد في جوانب المشكلة وضيق هامش حركة أطرافها الرئيسيين ( الأكراد والحكومة وقوى التدخل الإقليمية والدوليـــة ) في كثير من الأحيان.

إن الأكراد الذين استفادوا من دعم تلك القوى وتدخلها وضعوا أنفسهم في دوائر اهتماماتها فتقيدت حركتهم على ضوء رغباتها ومخططاتها فتوزعوا عليها فصائل لا تلتقي أحيانا إلا بالتقاء مصالح تلك الأطراف، وهو التقاء صعب  في الوقت الحاضر على أقل تقدير.

أما الحكومة المركزية التي تحددت حركتها في المنطقة الكردية بدأت تعي أن الحل لا يقتصر على مطالب الأكراد القومية والرؤية الوطنية للعراق بل وبتلبية مصالح أطراف كثيرة ومتشعبــة يصعب تأمينهــا سويــة.

وبالنسبة لدول الإقليم الأخرى فأن ثمن تدخلها بقضية العراق الكردية باتت تدفعه من استقرارها بعد انتقال حمّى المطالبـة بالحقوق داخل حدودها الكردية، وبذا أصبح الحل مجالا للتأثير والتأثر لا يمكن التغاضي عنه.

أما الغرب بنظرتهم البعيدة ومؤسساتهم البحثية الجيدة وإمكاناتهم المتطورة لم يتجاهلوا كثرة المتغيرات المؤثرة في هذه القضية التي تؤدي إلى صعوبة السيطرة عليها والى احتمالات حدوث ما يؤثر بسببها سلبا على مصالحهم المستقبلية في عموم المنطقة.  

 

التعامل مع القضية الكردية 

إن تعدد الأطراف ذات الصلة بالقضية الكردية في كردستان العراق والاتجاهات المتباينة لتدخلهم في شؤونها وجسامة التعقيد الناتج عنه كما أسلفنا أدى بطبيعة الحال إلى صعوبة التعامل معها أو صياغة الحلول المناسبة بعد أن أصبحت حالة شبه مزمنة على وجه الخصوص، إلا أنها وبنفس الوقت باتت قضية لابد من التفكير بحلول مناسبة لها، حلول علمية لا يسعى أحد الأطراف من خلالها جني كل الأرباح وتحميل الطرف الآخر  كل الخسائر، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار:

إن الخسارة الحقيقية بين جوانبها تلك الدماء الغزيرة التي أريقت والأموال الكثيرة التي بددت والحقوق الأساسية التي هدرت والمعاناة الشديدة التي أحسها عموم العراقيين عبر أكثر من نصف قرن من الزمن.

وان الربح المضمون في حلها هو بناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة ينعم فيه الجميع بالأمن والرفاهية والاستقرار بعيداً عن الطائفية والعنصرية وعن نوايا الأجنبي ومخططاته غير النزيهة.

وتأسيسا على هذا يمكن القول أن الخطوات الأولى لأي حل مقترح  لا بد وأن تأتي من بين الأكراد أنفسهم عبر توحدهم بالنوايا والأهداف التعبوية والاستراتيجية، وكذلك في مساعي الاتصال والتفاوض، وحدة كفاح تكسبهم امتلاك زمام المبادرة في التعامل مع كل الأطراف المعنية بقضيتهم منها الحكومة المركزية، تليها خطوات أخرى لا تقل عن الأولى أهمية قوامها التطبيق الجاد للديمقراطية، وذلك بتشكيل مؤسساتها المختلفة بعيداً عن الطائفية والإقليمية وبصيغة عملية قابلة للتعميم على باقي أجزاء العراق الأخرى مع أول فرصة تغيير للحكم مستقبلاً لأن أكثر الحلول رواجاً أو استمراراً بالنجاح تأتي من التطبيق الصحيح للديمقراطية التي يحقق فيها الأكراد ذاتيتهم ويحصلون من خلال ممارستها على حقوقهم القومية كاملة دون الحاجة  إلى البندقية أو التلويح باستخدامها.

وهو تطبيق لا بد أن يأخذ بالاعتبار جعل المنطقة الكردية في كر دستان العراق منبرا حرا لكل الوطنيين العراقيين وساحة عمل مشترك باتجـاه التغيير لنظام الحكم الدكتاتوري العنصري وبناء المجتمع العادل لكل العراقيين.

إن المؤشرات أعلاه وأخرى تتعلق بالتوعية ونبذ الأحقاد وتجاوز المصالح الشخصية والسمو فوق الاعتقاد أو الجزم بصحة الرأي الواحد ومن ثم العمل لإثارة الروح الوطنية العراقية وكذلك تشجيع اتجاهات التسامح والاخوة  بعيدا عن الحقد والتعصب الأعمى، وجميعها عوامل تساعدنا في الوصول إلى الحل المعقول لهذه القضية وهي عوامل تقع مسئوليتها بالدرجة الأساس على الأكراد وحركتهم الوطنية كما أسلفنا.

وبالمقابل يتحمل العراقيون مسؤولية مؤازرة إخوانهم الأكراد في الدفاع عن مطالبهم المشروعة في حكم أنفسهم ضمن التراب العراقي، أما الحكومة المركزية أي كان اتجاهها عليها أن تضع بالحسبان مشروعية تلك الحقوق وتساهم في تلبيتها وخاصة فيما يتعلق بإعادة ترتيب منطقة كردستان العراق على أساس الفدرالية ضمن العراق الديمقراطي الموحد.

وهنا يمكن التنويه إلى أن صيغة الفيدرالية الأكثر نجاح ينبغي أن توفر للأكراد إمكانية إدارة كل شؤون منطقتهم (عدا الدفاع والاقتصاد والخارجية) تلك المنطقة التي تؤشر تبعا للخرائط ونسب السكان المعترف بها، وأن تكون لها سلطة محلية ومجلس نواب محلي منتخب تحدد العلاقة بينهما والحكومة المركزية بصيغة الفدرالية التي يتم الاتفاق عليها بالاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى في هذا المجال، على أن يراعى التوزيع العادل لثروات العراق على عموم محافظاته، ومنها الكردية على وفق عدد السكان والحاجة إلى التنمية وضرورات الدفاع والأمن القومي العراقي، وأن يكون الصرف والمتابعة في الإقليم الكردي من قبل السلطة الكردية المحلية، مع الأخذ بالإعتبار أن تكون معايير الفيدرالية عاملا لإستقرار العراق وليس دافعا للإنسلاخ عنه بأي شكل من الأشكال.

إن نوع الحلول وصياغة أساليب التعامل على المستوى النظري لعموم القضايا الشائكة ومنها المشكلة الكردية مسألة ميسورة، لكن تطبيقها على المستوى العملي أمر صعب، وهذا لا يمنع في تقديم المزيد من البحوث والدراسات والآراء التي ستسهل التنفيذ بينها هذه الورقة التي قد تلتقي وتوجه المثقفين العراقيين عرباً وأكراداً وتركماناً، مسلمين ومسيحيين، صابئةً ويزيديين، شيعة وسنة …الخ من تركيبة المجتمع العراقي وبمستوى يحفزهم جميعا للدفاع عن الوطن ومستقبل أبناءه.

15/8/ 1998