رؤية في سلوك المعارضة ومنطق الدولة

لا يمكن الجزم على أن المعارضات السياسية في عالمنا المعاصر تعمل بروح المعارض وتفكر تفكير الدولة، إلا إذا استثنينا المعارضات القائمة في الدول الديمقراطية أي الغربية على وجه الخصوص لأن معارضتها مبنية في الأصل على معايير بينها علانية العمل، واستعداد المجتمع لاستثمار كل الجهود، وتجاوز الذاتية والأنانية ( بنسب ليست قليلة )، ورغبة المعارض ومجموعته تقديم الأفضل إلى بلدهم الذي يعتقدون في محيطه أنهم يمثلون الجزء وليس الكل المطلق، وغيرها معايير كثيرة فيما عداها ـ المعارضات الغربية ـ  فإن  المعارضات الأخرى وفي المجتمعات الأخرى سواء تلك التي تعمل في السر داخل حدود بلدها، أو تلك التي تقاتل بالبندقية على حافات الحدود، أو الثالثة التي تناضل بالفكرة، والقلم، والتحرك السياسي من خارجها، قد تعّودَ بعضها:

الالتفاف على الحقيقة في المضمار الرمزي للحقيقة.

وخبر قسم منها فن التآمر في الطريق إلى الحكم المدني الآمن.

واستوعب عدد من أفرادها فعل التسقيط قبل الوصول إلى خط النهاية.

وتركوا في توجههم هذا التمعن بالمناورة فنا لتحقيق الأهداف، وأهملوا في مساعيهم هذه التمسك بأساليب تبادل الأدوار طريقا لتأمين الغاية، وتجاوزوا في أخطائهم هذه التعاون والتنسيق في مجال صناعة وإصدار القرار سبيلا للوصول إلى المرامي كما هو الشأن الدارج في نظم الدولة والمعارضات الديمقراطية. 

إنه أمر واقع تَعُودُ غالبية أسباب وجوده إلى قلة النضج الحضاري، وإلى طبيعة العمل المعارض، وكذلك إلى الخصائص النفسية لبعض المعارضين، وبسببه فقدت العديد من المعارضات السيطرة على حركتها في مجال التعامل مع واقع بلدانها، وأخلت أخرى بشروط المبادرة وبمبادئ الحشد اللازمة لحل مشاكل مجتمعاتها.

وإنه أمر معقد في ذات الوقت، وتعقيداته ماثلة أمامنا في الواقع المعاش لمعارضتنا العراقية التي بذلت عموم فصائلها جهودا كبيرة لمقاتلة النظام الحاكم في بغداد، وحققت في قتالها على كافة الجبهات القليل من النقاط في العقل العراقي، وكذلك الأجنبي تصب في معظمها باتجاه نشر الوعي وصياغة رأي عام يؤمن بالضرورة الحتمية للتحرير، وإعادة بناء العراق ديمقراطيا.

ومع ذلك فإن عديد منها لم يتصرف بمنطق الساعي لإقامة الدولة أو بمعنى آخر لم تسلك وهي في الطريق إلى التغيير، السلوك المؤسسي للدولة بعد أن أبقت خطابها السياسي تيارات مؤدلجة في العقل الحزبي المعارض دون أن تمده موحدا، واضحا، متكاملا إلى العقل العراقي الحالم.

وبعد أن أبقت قراراتها في التعامل مع أكثر الأمور حساسية أشبه بالمعومة، تصاغ مفرداتها تبعا للتيارات والطوائف، والأصول القومية، وأماكن التواجد والتموين، وعلى العكس من فلسفة الدولة التي تدفع لأن يكون الخطاب واضحا وموحدا، يعبر عن الرغبات والتطلعات والنوايا، ولأن يكون القرار بينا، وجادا، ينم عن الخبرة ، والدراية، والاختصاص وإن كان من بين الصناع والمفاصل من يختلف مرحليا أو لم يقتنع آنيا.

وعلى العكس من سياقات عمل الدولة التي يقدم فيها الجميع العون للجميع بغية أن تستمر العجلة في الدوران، بقيت بعض فصائل المعارضة تعمل على نظام الفئة الضيقة لا تمد يدها خارج حدودها.

وأبقت مساعيها مقتصرة على تحقيق مصالحها الآنية القريبة لا تفكر بمصالح الوطن والآخرين، وجاهدت في لقاءات الجمع أن تحصل على أكبر قدر من الحصص دون الاكتراث بحق الباقين.

واستعرضت أمام الكبار في أن تكون القوة الأنسب، والمجموعة الأصلح متناسية وجود القريبين، وحاولت في كل مناسبة أن تثبت وجودها على الساحة متناسية وجود الآخرين.

لقد حصل ذلك، وسيحصل الكثير بسبب عدم القدرة على الخروج من دائرة المعارضة إلى فكر الدولة، فتسبب بوجه العموم في خسارة كبيرة للجهد المعارض، وللمجتمع الذي يسعون من أجل رفاهيته واستقراره كما يعتقدون.

وفيما عدا النقاط المذكورة في أعلاه هناك الكثير الذي يميز السلوك المعارض عن سلوك ومنطق الدولة لا نعتقد نحن العراقيين أننا وبعض معارضتنا بعيدين عنه، ولا نرى اختلافا في مجاله بيننا وبين الآخرين القريبين من منطقتنا، لأننا مثلهم في مستوى التدني بالنضج الحضاري، ولأنه سلوك يكاد يكون عاما يميز العمل المعارض في السوح التي تشبه ساحتنا، ومفكرينا مثل مفكريهم يؤمنون  أن الاستمرار في العمل بمنطق المعارضة والثورة، لا يمكن أن يكون سائدا على طول الطريق، وإن كان كذلك في البداية فإنه قريبا من النهاية يصبح غير مقبول تماما، بل ويتسبب في خسارة جسيمة، وبعض معالم خسارته فيما يتعلق بالمعارضة العراقية على سبيل المثال يتبين جليا في المثل التالي:

تعتقد معظم فصائل المعارضة وربما غالبية العراقيين أن التحرير في العراق لا يمكن أن يتم على يد المعارضة وحدها وبإمكاناتها الحالية، ويعتقدون في ذات الوقت أن الأمريكان هم الطرف المؤهل لتقديم الدعم المطلوب لتأمين تلك الغاية بعد أن التقت مصالحهم بمصلحة التحرير، ويقبل غالبيتهم هذا الدعم متيقنين أنه وحده الكفيل بتخليصهم من قبضة الدكتاتور، لكنها جميعا لم تستطع إقناع عموم الشارع العراقي والعربي بشرعية هذا الدعم، وأحقيتها بالحصول عليه (ليس بسبب القصور في أساليبها أو العيب بطريقة حصولها على الدعم من الأجنبي بعد أن تمنع العربي من تقديمه) لكنه بسبب كونها تتصرف بمنطق المعارضة التي ينظر لها الناس (نفسيا) وإن أحسنوا النية أنها مجموعة ثوار عليهم الاستمرار بتقديم التضحيات، وتحقيق المعجزات بالإمكانيات الذاتية، ومن يبتعد منهم عن مركز هذه النظرة أي يقبل الدعم يسقط عنه الجمهور في الشارع صفة المعارضة (نفسيا).

وربما يدفعه إلى الوقوع في فخ التشويه والتحوير والعدوانية التي لم تكن الحكومة بعيدة عن تغذيتها مفاهيم سلبية في العقول غير المدركة لأبعاد الحقيقة.

لكننا لو قارنا هذا الدعم المحدود لعمل المعارضة من أجل التحرير بذاك الدعم الكبير لبعض الدول، وبينها العربية من قبل نفس المصدر (أمريكيا)، وربما بذات الشروط أو أكثر قساوة على الدول منها على المعارضة، لا نجد في باب هذه المقارنة ذاك المستوى من الرفض والعدوان في الشارع العربي باتجاه الدولة الفلانية التي قبضت مليارات الدولارات (دعما لوضعها الاقتصادي) لمجرد مساهمتها في التحالف الدولي بالضد من العراق على سبيل المثال، أو نتيجة لقيامها فقط بالضغط على الدولة العربية الجارة في أن تخفف لهجتها بالضد من إجراءات تحقيق السلام مع الإسرائيليين.  

إن عدم تعميم الاتهام بالعمالة بالنسبة للدولة في هذا المثل المقارن واقتصاره على المعارضة لأن في الأولى نظام مؤسسي أسمه الدولة يعتقد الإنسان في مجتمعها أن من حقها أن تناور على الوقائع، ومن حقها أن تساوم على بعض القضايا، ومن حقها أيضا أن تتفق على ضرورات تأمين المصالح المشتركة .... حقوق تثبَتَ اقتصارها في العقل للدولة دون الثورة أو المعارضة، رغم أن العمل الثوري أو العمل المعارض في عالم اليوم (المعولم) لا يمكن أن يكتب لـه النجاح بعيدا عن تدخل الأقوى.

وهذه مقارنة بسيطة تثبت فقط أن المنطق يحتم الانتقال خطوة إلى الأمام سلوكيا وتثبت مؤشراتها إن الواقع الذي تعيشه المعارضة العراقية في الوقت الحاضر واقع يؤشر عدم استعداد بعضها للانتقال إلى العمل وفق فلسفة الدولة، بل والإصرار على البقاء في بوتقة المعارضة خاصة عندما أتيحت إلى ستة منها الفرصة في أن تستقبلهم الدولة الأعظم، والأهم في الشأن العراقي يوم 9 آب الجاري 2002، ومنحتهم الفرصة في أن ينتقلوا من خانة المعارضة إلى صفحة الدولة التي تتطلب أن ينظر كل واحد منهم إلى أنه لا يمثل فصيله فقط بل كل العراقيين، وتمثيله لهم ينبغي أن يدفعه إلى تجاوز معايير الحصص الدقيقة في التمثيل العام، وإلى السعي للتوسعة لأكبر قدر ممكن من باقي العراقيين في الاجتماعات المنوي عقدها.

إنه فقط منطق الدولة الذي يسقط فيه حق الفيتو الذي يرفعه البعض أمام التحاق الآخرين إلى الجهد المعارض، لأن منطق الدولة الديمقراطية التي يقاتلون من أجل إقامتها لا يستثن أحدا من أبناء شعبها من الخدمة في مؤسساتها، ولا يسقط من حساباته طائفة أو فئة من التمتع بحقوقها.

والعمل بمنطق الدولة لا يسمح في أن يقاتل البعض لاقتصار التمثيل على من دعته أمريكا للاجتماع، واختارته شريكا لبعض الاعتبارات، لأن التفكير بمنطق الدولة وأهدافها ومسيرتها يحتم إتاحة الفرصة إلى الجميع، ومد يد العون إلى الجميع بقصد البناء والتعمير.

إن منطق الدولة، والسلوك مسلك الدولة يقتضي أن تفتح الصدور لمرحلة أمان وإستقرار بعيدا عن التكتل، والتآمر الذي دمر الشعب العراقي، ويتطلب أن يتجاوز الحزب حزبيته، وتتخطى الحركة خصوصيتها.

ويرى كل فرد أن الدولة في داخله مفهوم ينظر من خلاله إلى الآخرين سياسيين متحزبين أو مستقلين هم أبناء هذا الشعب لهم حقوق وعليهم واجبات، وينظر إلى كل الأقوام نظرة متساوية، وإلى كل الطوائف نظرة متجانسة.

وبعكسه أي في حال البقاء تحت ظرف العمل المعارض حتى النهاية سيبقينا بعيدين عن تحقيق أهدافنا، وسيدفع الأمريكان وغيرهم إلى الاقتناع بضرورة التدخل في شؤوننا، وربما الاقتناع بفكرة البقاء في العراق فترة طويلة لضرورات الانتقال إلى الدولة نفسيا، وعمليا أو أنه أي الاستمرار في العمل بمنطق المعارض سيوجه المعنيين بالشأن العراقي إلى تجاوز جميع المعارضين الذين لم يستطيعوا استيعاب فكر وسلوك الدولة، وجلب شخص من خارج التشكيلة التقليدية في أول طائرة تحط في مطار بغداد بعد التحرير، من الذين يؤمنون بفكر الدولة، حلا قد يكون مقبولا عندما يبقى المعارضون منشغلين بصيغة الحصص، وعدد المدعوين، وطبيعة الحاضرين إلى الاجتماع المرتقب لتوحيد الجهد المعارض، والجيوش تتحشد بانتظار ساعة الصفر.

إنها الحقيقة التي ينبغي أن يتنبه لها الجميع وخاصة مجموعة الستة قبل فوات الأوان أو قبل أن يدفعوا بجدلهم غير المنتهي مجاميع أخرى للعشرة أو العشرين لأن تظهر في الساحة، وتدعي هي الأخرى شرعية التمثيل للمجتمع العراقي الذي لم يستطع أحد من الناحية المنطقية اقتصاره على فئة أو جماعة أو طائفة معينة.

ومع ذلك فإن الفرصة ما زالت قائمة رغم حراجة الوقت لأن يظهر من ينقل الجمع من مركب المعارضة إلى سفينة الدولة التي يشعر الجميع تحت أشرعتها بالانتماء إلى العراق والاستعداد للتضحية في سبيله وطن آمن للجميع.

 

لندن 20 آب 2002