1. يعتقد الكثير من العراقيين المعارضين لنظام صدام حسين، وغير المعارضين أن التغيير لا يمكن أن تنفذه المعارضة بسببها وضعها التنظيمي، وقدراتها المحدودة، وظروف الطوق المفروض عليها، ويصعب حصوله من الداخل بصيغ الإنقلاب أو الثورة الشعبية بسبب شدة ردود الفعل، وتعدد الأجهزة الأمنية، وتنوع الجيوش التي تعمل جميعا لحماية أمن الرئيس شخصيا، ومراقبة بعضها البعض.
كما لا يحبذ غالبيتهم تمرد القصر، وطلقة الرحمة التي تبقي صيغة النظام قائمة وتؤدي إلى الاستمرار بالدكتاتورية تحت مفاهيم الضرورات الثورية والحاجات المرحلية.
وإن الملائم من وجهة النظر العملية قبول العون والدعم الخارجي لجهد عراقي يؤسس قاعدة عمل عسكري يعمل باتجاه القضاء على حكم صدام، لكن العراقيون وبينهم المعارضة يدركون سوية قدرة المعارضة المحدودة في القتال بعد فشل تجربة المؤتمر الوطني العراقي نهاية التسعينات، فآمنوا بمسألة الحرب من الخارج خيارا واقعا لا يمكن الوقوف بالضد من حصوله، وجهد ترغب أكثر الفصائل المعارضة المشاركة به لإحداث التغيير، بإعتقاد لديها أن المشاركة يمكن أن تعطيه "التغيير" طابعا عراقيا، من خلال تعاملها طرفا وطنيا مع أهل البلاد، وتهيئتها الأجواء المناسبة لكسب القادة والآمرين في القوات المسلحة إلى صفها عند حصول التماس، الأمر الذي يسرع من عملية الحسم، ويقلل نسبة الخسائر التي وإن حدثت بحكم طبيعة القتال ستكون مقبولة من الناحية النفسية في مرحلة التغيير وما بعده مباشرة بسبب الشعور السار برفع الضغوط من على الكاهل المثقل بها لخمس وثلاثين عاما مستمرة، وستكون أقل من كم الخسائر التراكمية التي يتسبب بها أستمرار صدام.
2. إن التغيير عن طريق الحرب تتسارع مؤشرات حصوله بسرعة وضعت المعارضة العراقية في موقف تجاوزت في مجاله التفكير بالملائم، والممكن، والتنسيق والتعاون، والضغط والمناورة، وأقتربت في حالته أحزاب، وحركات، وشخصيات مستقلة من الولوج إلى أمر واقع أثار تباين في الأراء والأتجاهات بصيغ تعكس طبيعة الإنقسام الحاصل في صفوفها إلى تيارات، وأتجاهات، لكنه هذه المرة لم تكن درجات التباين في مجاله بين الرفض والقبول متعادلة في شدتها أو حتى متقاربة، كما هو الحال في الكثير من المواقف التي عطلت فعل المعارضة العراقية، إذ مالت هذه المرة كفة القبول إلى الترجيح بسبب عوامل نفسية كان لها الأثر الكبير منها:
أ. ضغوط الداخل.
يتعرض غالبية العراقيين في الداخل إلى ضغوط عيش مؤلمة، بسببها إبتعدوا بجميع فئاتهم وشرائحهم (ولو سريا) عن مناقشة ماهية التدخل وإتجاهاته، والمستقبل المأمول لمرحلة ما بعد التغيير بحكم الرغبة في التخلص من تلك الضغوط، وبالنتيجة حصروا أنشطتهم الفكرية في دائرة التمني للتخلص منها أو من مصدرها، ومواقفهم في هذه الحالة ستكون مع من يستطيع إزاحتها، دون التفكير بمصدر الإزاحة وطريقتها العملية، ولا بالخسائر والأخطار المترتبة عليها، وإن حصل مثل هذا التفكير "حتما"
سيكون بعد التخلص من تلك الضغوط بفترة زمنية تتيح للعقل البدء بالتفكير عقلانيا "دون ضغوط".
ب. ظروف العيش في الخارج.
يعيش عدة ملايين من العراقيين في الخارج كلاجئين، ومهاجرين كونوا قاعدة مد للمعارضة السياسية، تم الإعتراف بوجودها بعد عام 1991، وتقديم العون لها والسعي لتقويتها دوليا، ومثل هؤلاء وإن أبتعدوا عن ضغوط العيش المؤلمة لأهل الداخل، يعيشون غربة هي الأخرى مؤلمة في الخارج، كونت لديهم رغبات ومشاعر قوية للعودة إلى الوطن، أثرت مستوياتها الإنفعالية على إتجاهاتهم الإيجابية من التغيير وطريقة حدوثه.
ج. مقدار الأذى الحاصل من النظام.
بدأت دائرة الأذى الذي يتلقاه العراقيون من أجهزة النظام تتسع تدريجيا، وبدأت معالم القسوة بالضد ممن يشك بمواقفه المضادة للنظام تشتد بالمستوى الذي زاد من كثرة الهروب إلى الخارج، والنقد، والإحتجاج المبطن، والإعتراض غير الصريح بمقادير باتت تشكل دافعا نفسيا في غير صالح النظام، ورغبة في قبول طريقة تبديده من النفوس، أو بمعنى أدق إن الأذى يكّون إيحاءً مضادا من مصدره "صدام" ويشكل إتجاهات الإنتقام منه "تنفيس إنفعال الأذى" وإن كانت على يد الغير.
د. تقديرات الخسارة من التغيير.
إن تحديد المواقف من التغيير وطريقة حصوله لا تتوقف عند التصنيفات الثلاثة، فهناك شرائح مستفيدة من وجود صدام واسلوبه بالحكم، وهناك قادة عسكريون، وحزبيون بمستويات عليا لها ميزات أوجدها صدام، وهناك في نفس الوقت قريبين منه أنعم عليهم، وأجهزة أمنية تورط البعض من منتسبيها في المغالاة في تنفيذ توجيهاته، وتجار مستفيدون، وصناعيون مؤثرون، يحسون جميعهم وعوائلهم بخطر تغيير النظام، وبخسارة منافعه التي لا تحصى بطريقة دفعت إلى تكوين إتجاهات بالضد من التغيير، والحرب التي أصبحت وسيلته الوحيدة.
5. ومع تلك العوامل الدافعة تحديد الإتجاه، وأخرى غيرها فإن الإنقسام بالرأي وتعدد الأتجاه مسألة طبيعية، وإن جاء بعضها مغلفا لحراجة الموقف في التعامل مع تدخل خارجي قد يسحب إلى كثير من الإتهامات التي لا يريد البعض تقبلها، وللخوف من الإجهار بالمواقف خشية العقاب، لكنه أمر حاصل ما يهمنا منه في هذه الفترة الزمنية موقف القوى السياسية المعارضة التي يمكن تلخيصها بالآتي:
أ. التيار الإسلامي
مقتنع في غالبيته بأهمية العامل الخارجي لإحداث فعل التغيير، لكنه عمليا لا يستطيع الإجهار بتأييده دون تحفظ لإعتبارات تتعلق بجمهوره المعادي للامريكان، وبتأثير الدول التي يرتبط البعض بها إقليميا في أحيان أخرى، وكذلك بتخوفه من التهميش مستقبلا.
تأسيسا على هذا يمكن القول أنه في موقف الصراع بين إتجاهين أو أكثر، سيحاول في خطواته المقبلة إستثمار الفرص التي قد يوجدها الشارع بعيدا عن توقعات المدعومين من العامل الخارجي، وسيؤسس محاولاته على قدرة كوادره في إستثارة الموروث الثقافي الإسلامي في مرحلة الإنتقال الحرجة سعيا منه لفرض الوجود، وتحقيق مكاسب ونفوذ.
ب. اليسار الديمقراطي
مثل الشيوعيين الذين ما زالوا يحتفظون في ذاكرتهم بقدر من العداء التقليدي للإستعمار والغرب والأمريكان، وهم بسبب هذه الرواسب، لا يباركوا أي تدخل خارجي يعون تماما أن محوره أمريكي، وإن أطر بأطر وتحالفات دولية، رغم إعترافهم عمليا بعدم إمكانية حدوث التغيير بمنأى عنه، لكنهم سوف لن يتحركون بالضد منه مسافة أبعد من الإعلام البسيط والتحالفات الضيقة، ومحاولة إستثارة الشارع أملا في الحصول على التأييد المعنوي، والإعتراف بالوجود.
وهناك ضمن هذا التيار بعض القوى والحركات التي تقترب من الشيوعيين فكريا وتاريخيا، إضافة لبعض الشخصيات المستقلة القريبة من هذا التوجه.
ج. القوميون
مثل البعثيين ( قيادة قطر العراق) وهم بوجه العموم لا يتحركون خارج الإرداة العامة للقيادة القومية، ومواقف الاستراتيجية السورية، وسيبقون بانتظار أي تغيير في الموقف السوري المعارض للتدخل الخارجي"الأمريكي" مع الشروع بالحرب قد يسمح لهم في الحصول على دور ما، لكنهم بوجه العموم سوف لن يحصلوا على فرص عمل أفضل ليس بسبب التحرك ضمن خطوات القيادة القومية فقط، بل وكذلك بسبب موقف التعميم بالضد من حزب البعث "وإن كانوا جناحا آخرا" الذي سيتكون سريعا بعد التغيير والذي سيدفعون هم ثمنه على الرغم من معارضتهم صدام حسين، وأشتراكهم بالنضال ضد ديكتاتوريته لفترة زمنية طويلة.
وضمن هذا الأتجاه هناك بعض الحركات والشخصيات القومية ذات الفاعلية المحدودة، أغلبها موجود على الساحة السورية، تتأثر هي الآخرى نسبيا بموقف الحكومة السورية المعلن بالضد من العامل الخارجي في التغيير، وبمشاعرها القومية بالضد من الأمريكان.
وعموما فإن تأثير التوجه القومي ينحسر تدريجيا في مجتمع عراقي يعاني ردة واضحة المعالم في إتجاهاته القومية.
ج. الليبراليون
وهم الجماعة الأوسع نهجا وتفكيرا، والأقل تنظيما بالمقارنة مع التقسيمات المذكورة في أعلاه بالوقت الحاضر، والأكثر جرأة في الإجهار بالتأييد والتعاون مع العامل الخارجي في عملية التغيير، مع القناعة بضرورة أن يكون لـهم دور في عملياته.
قوة حجتهم تأتي من تحسسهم طبيعة وأتجاهات التفكير السائد بين السواد الأعظم للعراقيين، ومن وقوف الغالبية العظمى من المثقفين والمختصين والأكاديميين مع نهج تفكيرهم العملي، وهم سيكونون أكثر المؤهلين للتعاون المباشر والصريح مع العامل الخارجي إبان عملية التغيير، وقد تتاح لبعضهم الفرصة لقيادة البلاد ما بعده، لكن مشكلتهم الرئيسية هي بتعدد وكثرة الشخصيات التي تسير في طريقهم بشكل غير منظم، وبإعتمادهم في التحرك على النخبة، ومن ثم عدم قدرتهم على إيجاد الرمز شخصا أو حركة يستطيع أو تستطيع توحيد وحشد جهودهم بشكل يؤثر بالأحداث، هذا بالإضافة إلى إنهم يمثلون جهد سياسي حديث بالمقارنة مع التقسيمات الأخرى، لم يستطع خلال هذه الفترة المحدودة أن يكون لـه إمتدادات منظمة بشكل واسع في العمق العراقي (الداخل) رغم أن أفكار المنضوين تحت مظلته تجد بين عموم العراقيين تأييدا واسعا.
د. المستقلون
غير المنتمين إلى حركات وأحزاب سياسية، وهم غالبية العراقيين، ينقسمون من الناحية الفكرية إلى عديد من الإتجاهات تقترب غالبيتها من الليبراليين.
يقرون أغلبهم ضرورة العامل الخارجي في حل الأزمة لكنهم يفضلون البقاء في موقف المتفرج حتى الإحساس ببدأ العمل الميداني فعليا، وفي حاله سيتقدم الكثير منهم إلى الإنظمام إلى الأحزاب والحركات التي يقتربون من مفاهيمها نفسيا وسيحاول العديد منهم التزاحم في عرض خدماته بالوقت المناسب.
هـ. العسكريون
إن بعض الضبط في المنفى قد توجه للعمل السياسي تبعا للتيارات والحركات التي يقترب منها فكريا، وبقي البعض الأخر وهم الغالبية كمستقليين يميلون إلى العمل في الإطار العسكري المهني إذا ما أتيحت الفرصة لذلك، لكن مشكلتهم هي أن غالبيتهم قد تجاوز السن القانوني للخدمة العسكرية، وكذلك إبتعادهم فترة طويلة عن التواصل مع العلم العسكري وتخصصاته الفرعية، وهم في معظمهم يدركون أن العامل الخارجي هو المعول عليه فقط في الوقت الراهن، لكنهم وبنفس الوقت يشعرون بالتهميش بدعوى الخشية من إنتقال عدوى الديكتاتورية العسكرية في الحكم التي تكونت في عقل المعارضة العراقية والجهات الأجنبية التي تتعامل معها.
6. أن الحرب باتت قريبة في العراق، والتغيير تحصيل لإحدى نتائجها الحتمية، والمواقف منها في الوقت الحاضر سوف لن تكون مؤثرة في القرار من شنها، لأنه قد أتخذ حتما، دون حساب يذكر لاراء الطرف المقابل فيها "العراقيون" اللذين آمن الكثير منهم أنها الطريقة الوحيدة لإحداث فعل التغيير، ومع هذه القناعات كانت هناك أتجاهات منها لم يقترب فيها المؤيدون لحصولها بهذه الطريقة من مناقشة الآثار السلبية المحتملة لحصولها بسبب الضغوط الموجودة والرغبة العارمة للتخلص منها والنظام الذي أوجدها.
ولم يتمكن المعارضون لها من تسويق حججهم في معارضتها وسط قوة الزخم المؤيدة، وهول الإعلام الدولي لترويجها.
7. إن المشكلة في تباين الإتجاهات وتأسيس معظمها على خزين الإنفعالات، وعدم قدرة المعارضة والنخبة العراقية على التحسب المسبق للآثار السلبية الحتمية للحرب سيضع فصائلها وباقي العراقيين في مواجهة مشاكل، تعتمد نسبة حصولها وشدة مخاطرها على شكل وطبيعة الدعم الدولي لطاقم الحكم المهيئ إلى سد الفراغ، وتهيئة بعض الفرص أمامه لتجاوز بعض آثار وتراكمات نظام صدام.
هذا وستكون أكثر الأمور خطورة على المجتمع العراقي ما يتعلق منها بتحديد شكل نظام الحكم ورئاسة الدولة العراقية وكيفية التوزيع العادل للمناصب والأدوار، لأن الطوائف الغالبة في التركيبة الأجتماعية العراقية ستجد نفسها أمام واقع جديد ومشاعر جديدة قادرة على تكوين نوع من الصراع قد يؤدي إلى أشاعة الفوضى خلال فترة الأنتقال المرتقبة بعد الحرب منها مثلا:
الشعور بالخسارة التي قد يحسها البعض من السنة "القريبين من نظام صدام" من فقدان الأرجحية في الحكم، وهو شعور قد يدفع البعض إلى القتال بالضد من الوضع الجديد من أجل التخلص منه عند سنوح الفرصة.
والشعور بالغبطة والربح عند الكثير من الشيعية، بتحقيق الأرجحية التي ستوفرها الديمقراطية المحتملة، والإحساس بالخطر من إحتمال فقدانها " خاصة في حال وجود تهديد مسلح" وهذه مشاعر في خضم الصراع تدفع هي أيضا إلى إحتمال حمل السلاح للحيلولة دون فقدان الربح.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأكراد الذين سيكونون أقوى اللاعبين في ساحة الصراع المحتملة للمرحلة المقبلة أي مرحلة ما بعد الحرب والتغيير.
8. إنها مشكلة أو أكثر المشاكل خطورة وتهديدا للمجتمع العراقي، وإن تجاوزها فقط سيكون بتولي إدارة البلاد حكومة تكنوقراط قوية، مسندة من الخارج متوازنة طائفيا وقوميا، ولفترة إنتقالية لا تزيد عن السنة يتأسس خلالها دستور للبلاد يجري الإستفتاء عليه وعلى شكل نظام الحكم، ومن ثم يتم إنتخاب البرلمان والحكومة بإشراف دولي.
15 نيسان 2002