التخريب القيمي في الجيش العراقي لمرحلة حكم البعث في العراق

عــــــام

1. تأسس الجيش العراقي في 6 كانون الثاني عام 1921 بقرار بريطاني اتخذ قبل هذا التاريخ على أرض مصرية وبخبرات وأسلحة بريطانية، معتمدا على ضباط عثمانيين تعاهدوا على خدمة الملك الحجازي فيصل الأول، في معادلة ذات بعد سريالي جرى فيها تغييب متعمد عن تركيبة هذه المعادلة لأي حضور عراقي فاعل، حتى عد بعض المحللين أن عملية التأسيس هذه كانت دقيقة التفاصيل والملامح، ومحكومة برؤية استراتيجية محددة، استطاعت في بداية القرن أن تضع الخطوط الأساسية لمستقبل العراق السياسي على نحو مهد الطريق لصناعة ألغام (أزمات) الحاضر العراقي (1)، وعموما فإن الإنجليز الذين أرادوا بدايته جيشا بديلا عن جيشهم في التعامل مع الوضع الداخلي للعراق ، هم أكثر من أضفى على مشواره الطويل الصيغة الغربية " الإنجليزية " تنظيما، وتدريبا،  وتعبية حتـى وقتنا الـراهن ( إذ من المعروف أن من أقترح تأسيس الجيش العراقي هو السير برسي كوكس أثناء مؤتمر القاهرة في 12 آذار 1921، حيث كان العراق يمثل بوفد من السير برسي المعتمد السامي، والجنرال ايلمر قائد القوات البريطانية، والمس بيل السكرتيرة الشرقية للمعتمد السامي، والعقيد سليتر المستشار المالي، وأتكنسن مستشار الأشغال، والميجر ايدي مستشار الدفاع بالوكالة، وجعفر العسكري وزير الدفاع في حكومة النقيب المؤقتة، وزميله حسقيل ساسون وزير المالية اللذان مثلا في اللجنة كاستشاريين يحضران اجتماعاتها عند الحاجة إليهم (2)، هذا وان طبيعة التنظيم وأساليب التعبية التي وضعها الإنجليز منذ البداية لم تتغير بعد ثورة 14 تموز 1958، وحتى يومنا هذا، على الرغم من إعادة تسليح غالبية وحداته بأسلحة شرقية ـ أي ـ سوفيتية ـ وتوجه قيادته بإرسال العديد من الضباط للدراسة والتدريب في الاتحاد السوفيتي، التي تدفع منطقيا إلى التغير بأساليب التعبية على ضوء قدرة وطريقة استخدام تلك الأسلحة كما جرى في الجيشين العربيين المصري والسوري).

2. ومع بدايات التأسيس توجهت رئاسة أركان الجيش إلى سد النقص الحاصل في موجود الضباط، خاصة الرتب الصغيرة من بين أبناء العشائر العراقية بعد إدخالهم دورات خاصة لهذا الغرض، وهو توجه أكد ديمومة البعد الطائفي الذي تأسس مع بداية تأسيسه من قاعدة الضباط العراقيين في الجيش العثماني، خاصة وإن غالبية العشائر العراقية الموجودة في وسط، وجنوب العراق رفض رؤسائها وبتأثير المرجعية الدينية إرسال أبنائهم لهذه الدورات على العكس من العشائر العراقية الموجودة في أعلى وسط وشمال العراق التي رحبت بالفكرة ودعمتها بالكثير من الشباب، في الوقت الذي انخرط فيه الكثير من أفراد تلك العشائر الجنوبية من أبناء الفلاحين كمراتبذ، بحكم قوانين التجنيد الإجباري وكضباط صف في مراحل لاحقة للحاجة المادية وتدني المستويات المعرفية بعيدا عن سلطة الشيخ ليشكلوا غالبية منتسبيه من ضباط الصف والجنود، وهي ـ أي الطائفية ـ بعد وإن لم تظهر تأثيراتها بشكل واضح مع بدايات التأسيس، لكنها تطورت تدريجيا لتصل إلى مستويات ملموسة ما بعد الملكية، خاصة في سني حكم عبد السلام عارف، وأقل منها في حكم أخيه عبد الرحمن لتصل إلى أعلى مستوياتها في زمن البكر وصدام حسين، ويعود هذا التطور إلى عدة عوامل أهمها:

أ. إن جذور التنشئة الاجتماعية في العراق قبلية، وَسَمت السلوك الفردي العراقي بخاصية المحسوبية التي يفضل على أساسها المرء التعامل مع الأخ أولا ثم ابن العم ثم القريب ومن بعدهما الفــرد العادي من العشيرة، وهذه الخاصية دفعت أولئك الضباط المنحدرين من أصول عشائرية، أو بالمعنى الأصح أولاد الشيوخ أن يمهدوا كثيرا لأبناء عمومتهم وأفراد عشائرهم، والمنطقة للقبول في الكلية العسكرية ولاحقا الأركان ومن بعدها استلام المناصب القيادية في الجيش. وبتقادم الزمن أصبح غالبية الضباط من بين أفراد عشائر عراقية دون أخرى، وأصبحت قيادة الجيش كذلك من نفس تلك الأصول حتى بعد تغير نظرة الجنوب العراقي إلى الخدمة في الجيش ورغبتهم التطوع للعمل في صفوفه في أواخر الملكية ومعظم سني الجمهورية.

ب. إن المشير الركن عبد السلام عارف الذي تمرد على قاعدة حزب البعث العريضة في الجيش إبان انقلابه عليهم في 18 تشرين 1963 بعد أن نُصب من قبلهم رمزا لرئاسة الدولة قبل أقل من عام من ذلك التاريخ لملأ الفراغ الذي تركه عبد الكريم قاسم، أدرك أن نجاح تمرده غير كاف للاستمرار في الحكم، وأدرك الحاجة إلى الارتكاز على أسس لتعزيز الوجود وإحكام الأمن الخاص بالنظام، وأدرك أيضا أنه فقد أي دعم ممكن من قبل الضباط القاسميين، والبعثيين وبطبيعة الحال الشيوعيين اللذين يشكلون جميعا غالبية ضباط الجيش العراقي في تلك الفترة الزمنية.

وتحت تهديد الانقلاب المضاد والجذور الطائفية والعشائرية لعبد السلام عارف وعدم إيمانه بالحزبية في الجيش وخارجه لم يبق لديه سوى خيار التوجه إلى الضباط الدليم لتسليمهم مناصب مهمة مثل العقيد سعيد صليبي للانضباط العسكري، وأخيه اللواء عبد الرحمن لرئاسة أركان الجيش وغيرهم، وكانت تقديرات الرئيس عبد السلام دقيقة في حينه، لأن وجودهم هذا شكل ضغطا على الحكومة العراقية وقيادة الجيش عام 1966 لتنصيب اللواء عبد الرحمن رئيسا للجمهورية بعد مقتله ـ أي عبد السلام ـ في حادث طائرة سمتيه غامض، وهي تقديرات سار عليها الرئيس عبد الرحمن بدرجة مقاربة ساهمت بإفشال حركة الناصريين بقيادة اللواء الطيار الركن عارف عبد الرزاق عام 1967، لكنها لم تحول دون نجاح حركة البعثيين الذي قفزوا من فوقها ظاهرة قد تفشل حركتهم وذلك بضم أهم ركنين من أركانها إلى قيادتها ـ أي الحركة ـ هم العميد الركن إبراهيم عبد الرحمن الداود آمر لواء الحرس الجمهوري والمقدم الركن عبد الرزاق النايف معاون مدير الاستخبارات العسكرية ( مديرها وكالة أيام الانقلاب ) اللذان يرجعان في أصولهم إلى عشائر الدليم.

ج. إن النظر إلى طبيعة الدولة العراقية منذ تأسيها نتلمس البعد الطائفي واضحا في تشكيل وزاراتها، إذ أن أول وزارة شكلت برئاسة عبد الرحمن النقيب قبل الملكية لم تضم وزيرا شيعيا بحقيبة وزارية، وإن الإنجليز هم أول من اقترح ضرورة وجود شيعي في الوزارة وأقنعوا النقيب بذلك، ومن بعدها أيام الملكية درج أن تكون وزارات الدفاع والخارجية والداخلية، ورئاسة الوزارة، والبرلمان على سبيل المثال من الطائفة السنية عبر كل الوزارات التي شكلت آنذاك، بالمقابل كانت وزارات المالية، والمعارف، ورئاسة مجلس الأعيان تأتي من الطائفة الشيعية، إلا في استثناءات قليلة كان يرجع فيها الملك على سبيل المثال إلى الصدر، أو صالح جبر لرئاسة الوزارة لتجاوز أزمة تلم بالمملكة، تعود بعدها التوازنات إلى طبيعتها بعد انتهائها " الأزمة "، وهذا توجه تعود بعض أسبابه على الأغلب إلى:

أولا. الجذور التركية في التعامل الطائفي مع المجتمع العراقي الذي خلفَّ كفاءات في المجتمع العراقي من بين أبناء الوسط والشمال أكثر من أولئك الموجودين في الجنوب وبالمستوى الذي دفع الإنجليز ومن بعدهم الملك وغيره إلى التفتيش بينهم كمؤهلين لإشغال تلك المناصب (3).

ثانيا. الإنجليز وثورة العشرين التي كانت جذورها بالجنوب العراقي، وكانت صبغة قيادتها دينية شيعية، ومعظم ثوارها من بين العشائر الشيعية، الأمر الذي يرجح فيه البعض من المحللين والمؤرخين، أن الإنجليز المعنيين بالانتداب على العراق وكرد فعل لتلك الثورة، وبهدف تأمين نفوذ أفضل بدءوا التعامل، قبل مجيء الملك، ومن ثم بعد تنصيبه مع عراقيي الوسط والشمال في جوانب الحقائب الوزارية  والمناصب القيادية ذات الأهمية، أكثر من جنوب الوسط والجنوب، وتعامل بهذه الصيغة المحددة لا يمكن أن يستثنى منه الجيش عماد الأمن القومي للدولة، لتكون بالمحصلة تركيبة قيادته هي الأخرى طائفية لتضمن تجانسا يحقق غاية الأمن المطلوبة من وجهة نظر الإنجليز والملك ورئاسة الحكومة ( وهذا سبب قد يكون الأكثر إحتمالا تؤيد  ترجيحه الوثائق التاريخية التي تشير إلى موافقة الحكومة البريطانية على مقترح السر برسي كوكس بضرورة تشكيل حكومة وطنية عراقية كرد فعل على ثورة العشرين، وكان معنيا بتشكيلها، إذ شكلت أول وزارة في 25 تشرين الأول 1920 برئاسة عبد الرحمن الكيلاني (النقيب) والسيد طالب لوزارة الداخلية وجعفر العسكري لوزارة الدفاع، وساسون حسقيل لوزارة المالية ومصطفى الآلوسي للعدلية، وعزة الكركوكلي للمعارف، ومحمد علي فاضل للأوقاف، وعبد اللطيف المنديل للتجارة، إضافة إلى وزراء بلا وزارة هم عبد الجبار الخياط، وعبد الغني كبة، وعبد المجيد الشاوي، وعبد الرحمن الحيدري، وفخري جميل، ومحمد صيهود، وعجيل السمرمد، وأحمد الصانع، وسالم الخيون، وداود اليوسفاني، وضاري السعدون، ونجم البدراوي. وقد عين لكل وزير مستشار بريطاني، وتشير مس بيل في مذكراتها أن كوكس وبعد شهرين من تشكيل الوزارة استطاع إقناع النقيب بضرورة إسناد وزارة ذات حقيبة إلى رجل شيعي فوقع الاختيار على محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي من كربلاء حيـث أسـندت له وزارة المعارف والصحة. وفي22 شباط نقل الكركوكلي إلى منصب وزير الأشغال والمواصلات (5).

3. ومن جهة أخرى فإن جذور تشكيل الجيش العراقي وظروف تأسيسه بداية العقد الثالث للقرن العشرين ميزته أيضا بخاصية أخرى انعكست سلبا على وضعه منذ ذلك التاريخ وحتى وقتنا الراهن وهي: عدم امتلاكه عقيدة عسكرية واضحة المعالم وبمستوى يمكن التعويل عليها في تحديد أهدافه الكبرى، وصياغة أساليب النفير والتنقل السوقي لأغراض التحشد الخاصة به، باستثناء ملامح بسيطة تضفي استخدامه سوقيا في مجالات الأمن الداخلي، وهو أمر ظل باستمرار يشكل عقدة خطيرة تمنع العقل العسكري العراقي من التفتح والتجريب، وتعطي المجال واسعا أمام الحكومة لزجه في عمليات عسكرية تثير الريبة، حتى عدَّ البعض من الكتاب العسكريين أن هذه كانت وراء تأثر كافة عملياته العسكرية بالقرارات السياسية للحكومة الآنية سواء ما يتعلق منها بالداخل، أو تلك التي تتجه لمعالجة مسائل خارجية وحجتهم في ذلك:

أ. تكرار استخدام الجيش لأغراض الأمن الداخلي بالضد من العشائر العربية في الجنوب والعشائر الكردية في الشمال، حيث شهدت أعوام 1923، 924، 926، 927، 928، تحركات من هذا النوع في كربلاء، والناصرية، والبصرة، والرمادي، والموصل، والسليمانية.

كما أمر ياسين الهاشمي الجيش في عام 1930 بالهجوم على الفرات الأوسط، وبعده رشيد عالي الكيلاني الذي وجهه للهجوم على عشائر الرمادي، كما ضرب الجيش قضاء عفك والمناطق القريبة منه عام 1935، وهاجم عشائر آل إزيرج وشيخها خوام في الرميثة عام 1936 بطريقة عدّت توظيفا دقيقا للقمع العسكري المنظم.

ب. عدم التورع في استخدامه كل أنواع الأسلحة الثقيلة والأسلحة الكيماوية ضد المدنيين من أبناء شعبه، إبان حكم البعثيين وصدام حسن على وجه الخصوص.

ج. تحركه لنصرة حكومة كميل شمعون في لبنان عام 1958.

د. استعداده لضرب سوريا في عملية البعث عام 1976.

هـ. اقتحامه الحدود الإيرانية عام 1980.

و. احتلاله الكويت عام 1990.

4. ومع تلك الخصائص التي أُشرت سلبا على الجيش العراقي بدايات تكوينه واستمرت معه بمستويات متفاوتة حتى وقتنا الراهن، هناك أخرى أُشرت إيجابا على مسيرته تعود في الأصل لجهود مؤسسيه الأوائل ومحاولاتهم الجادة لتأكيد وجوده رمزا لدولة عراقية، واتجاهـات بعض المعنيين بها لبناءه بناءا عصريا يعزز وجودها، واحترام الملك وتقدير الحكومة لدوره الخاص بالدفاع عن أمنهما وفرض النظام في الداخل، خصائص لا يمكن تجاوزها في أي عرض ، ولأي جانب من جوانبه بينها: 

أ. الوطنية 

إن مشاعر المنتسبين من الضباط والمراتب للأجيال الأولى في الجيش قد تأثرت بالمد الوطني والقومي آنذاك، حتى حاول البعض، وخارج السياقات الدارجة التأكيد على أهداف عامة للجيش تتمثل في الدفاع عن حدود الدولة وحماية أمنها الخارجي، رغم استخداماته المتكررة داخليا، وكانت تمارين تعد وتنفذ، ومناقشات تدور في هذا المجال، وأوراق بحث في كلية الأركان تنجز بحدود معقولة تجتمع في نتائجها، وتوصياتها لتغطية تلك الأهداف ( وإن لم ترق إلى مصاف تكوين عقيدة عسكرية خاصة ) حتى أصبحت مفرداتها تتكرر في عقول المنتسبين وفي سلوكهم لمستوى أحستهم بالاعتزاز الكبير بها وبالجيش الذي يسعى إلى تحقيقها ، وهذه عند النظر إليها من زوايا النفس نجد أن فيها أسس لمشاعر وطنية بين منتسبي الجيش العراقي بحدود معقولة إذا ما قورنت بواقع التأسيس وطبيعة المهام التي تدفع بالاتجاه المعاكس . 

ب. الضبط  

إن العسكرية العثمانية التي تميزت بالضبط الصارم وممارسة العقوبة كوسيلة لترسيخ هذا الضبط قد تركت بصماتها على خاصيته " الضبط " في الجيش العراقي من خلال الضباط العثمانيين الأوائل الذين تطوعوا في وحداته، وكذلك كانت العسكرية الإنجليزية التي وسمت بضبطها الجيد قد تركت هي الأخــرى بصماتهـا الواضحة على مستوياته، من خلال الخبراء والمستشارين الذين نسبوا للمعاونة والبعثات التي أرسلت للدراسة في الكليات والمؤسسات الإنجليزية، وكذلك كفاءة، وجدية  أولئك الضباط الذين أخذوا على عاتقهم مهام بناء الجيش، والتي تضافرت جميعا لتكوين مستويات ضبط جيدة في عموم وحداته استمرت مستوياتها معقولة " مع تذبذب بين الحين والآخر تبعا لظروف العراق السياسية " حتى عام 1980 تاريخ دخوله الحرب مع إيران التي تعد نقطة تحول سلبية في مجال ضبطه العسكري. 

ج. المشاعر القومية 

حارب العراقيون مع العثمانيين خارج وطنهم بعدّها الخلافة الإسلامية، ونُصب عليهم ملكا فيصل الأول القائد الحجازي الذي قاتل في الثورة العربية التي تدعوا من بين أمور أخرى لقيام الدولة العربية، وباستثناء فترة حكم عبد الكريم قاسم من 1958 ـ 1963 التي عرفت بالميل إلى الوطنية العراقية، فإن كل مراحل الدولة كان النظر فيها يمتد إلى خارج الحدود، وهو امتداد انعكست أبعاده على الجيش الذي بات يشعر ضباطه على وجه الخصوص أنهم معنيين بمشاكل غيرهم من العرب، وإن دورهم في الدفاع عن العراق يُكمل دور الجيوش العربية الباقية في الدفاع عن أراضيها، في إطار الأمن القومي العربي، وهذه مشاعر أعطت هذا البعد " القومي " في العقل العراقي العام وكذلك العقل العسكري العراقي مساحة معينة، خاصة ما بعد ستينات القرن الماضي بالمقارنة مع المساحة المخصصة للمشاعر الوطنية العراقية ( هذا ومن الجدير بالتذكير أن مساحة المشاعر القومية قد تقلصت كثيرا ليس في عقل العسكر العراقي فقط، بل وكذلك في عقول غالبية العراقيين أثناء أزمة العراق الحالية بسبب ردة الفعل المضادة تجاه أهداف احتلال الكويت التي حاولت حكومة بغداد ربطها بموضوع الوحدة العربية، إذ أنها وبعد الفشل في تحقيق تلك الأهداف والخسائر الجسيمة التي تكبدها الإنسان العراقي، ووطنه العراق جراء تصرف حكومة الحزب الوحدوية، تكَّوَنَ في العقل العراقي العام إيحاءا مضادا لموضوع الوحدة والشعارات المرتبطة بها وبالقومية، زاد في تعزيزها:

أولاً. اعتقاد غالبية العراقيين أن تحالف بعض العرب مع الغرب والأمريكان لضرب العراق بداية الأزمة قد تم قبل استنفاذ السبل الأخرى لإيجاد حلول مناسبة لها.

ثانياً. تيقن العراقيين أن العرب لم يستخدموا إمكاناتهم المتاحة للضغط على صدام وإجباره على الانسحاب من الكويت دون اللجوء إلى التحالف مع الأجنبي لتدمير العراق وتطوير الأزمة. 

ثالثاً. انتشار إشاعات عن تعامل سلبي لمنتسبي الجيوش العربية المتحالفة مع الأسرى العراقيين أثناء القتال البري، ولمستوى كان يحاول العسكري العراقي التوجه للتسليم إلى الأجنبي دون العربي في ظروفه  الصعبة آنذاك .

رابعاً. تلكؤ بعض الدول العربية ، وعدم قدرتها سياسيا وإعلاميا للفصل بين العراقيين والحكومة العراقية في تعميم الثأر والعقوبة جراء الأزمة).

خامساً. الشجاعة 

قد تكون للأصول العشائرية، وللخدمة العسكرية في جيوش العثمانيين بالنسبة لبعض ضباط الجيش العراقي وكذلك ضباط صفه وجنوده ولطبيعة الإنسان العراقي أثر في خصائص الإقدام، والقدرة على التحمل، والاستعداد للتضحية التي تأتي من بين مفردات الشجاعة التي تميز بها الجيش العراقي بقدر معقول بالمقارنة مع  الجيوش العربية، وغير العربية القريبة، ومنذ الأيام الأولى لوجوده عامل على الساحة العراقية، وكذلك كان في الظروف التي عمل فيها خارج الحدود مقاتلا مع غيره من العرب على الساحة الفلسطينية وغيرها.

سادساً. المهنية 

لم يكن مسموحا لضباط الجيش العراقي، ولا لضباط صفه وجنوده أن يعملوا بالسياسة، وتؤكد الضوابط، ومواد القانون الخاص بالخدمة العسكرية في هذا المجال أن من يرغب الترشيح للانتخابات النيابية مثلا عليه أن يستقيل من الخدمة العسكرية.

وهذا اتجاه صحيح تعمل على أساسه غالبية الجيوش في دول العالم، باستثناء الجيش الأحمر في أيام الاتحاد السوفيتي، الذي لم يعمر في نهاية الأمر، وقليل جدا من جيوش عربية وأخرى في دول نامية، وصحته تأتي من أن التفرغ إلى العسكرية دون السياسة يزيد من ميل العسكر لاحتراف مهنتهم العسكرية ويضاعف درجات الاعتزاز بها واجبا وطنيا يفتخر به في كل الظروف والمواقف، وهذا ما كان مؤشرا على عموم العسكر العراقي حتى وقت قريب، أو بالتحديد عام 1968 عندما جاء حزب البعث العرب الأشتراكي "العراقي" إلى الحكم وغير من هذه القوانين والضوابط  التي أسمهت بتسييس الجيش وتبعيثه ليكون في محصلة الأمر طرفا من أطراف الأزمة ، أو املا ولو غير مباشر من عوامل استمرارها.

( وهنا يمكن القول أن  الضابط كان يفتخر يفتخر بين أهله وأفراد جيله أنه عسكري عراقي، وكان ضابط الصف يحترم حدود عسكريته ويعتز بها، وكان سلوك العسكر العراقي عند تعرض أحدهم إلى موقف صعب أو فيه بعض التجاوز والاعتداء من قبل الآخرين في الشارع العام، أو في أحد وسائط النقل يدفع العسكر القريبين منه إلى المبادرة طوعا للوقوف معه قبل الاستفسار عن الدوافع والأسباب، حتى باتت بعض مشاهد تدافع الجنود وفي أيديهم أنطقتهم النسيجية في القطارات أو في محطات ركوب السيارات وهم يهجمون على شخص حاول الاعتداء على ملازم في الجيش، أو أحد حاول التطاول على ضابط صف من المشاهد المألوفة، وهذه بطبيعتها تعبر عن أمور بينها روح التعاون والاعتزاز بالعسكرية العراقية ـ أي المهنية ـ علما أن هذه الحالة استمرت سلوكا معروفا حتى بداية السبعينات عندما أصدرت القيادة السياسية للبعث العراقي أوامرها إلى الجيش بمنع هذا السلوك الذي عد من قبلهم ظاهرة سلبية لا تنسجم وفكر الحزب. 

 

الجيش والسياسة في الدولة العراقية

1. تأسس الجيش العراقي في الحكومة الملكية برؤية إنجليزية حددت طبيعة واجباته في الدفاع عن المصالح الإنجليزية، ودعم الحكومة وفرض الأمن داخلي، كما ورد أعلاه، وبات تنظيمه على هذا الأساس أول فوج للمشاة ( فوج موسى الكاظم ) مقره بغداد، والفوج الثاني في الموصل، وكذلك الفوج الثالث الذي دعم ببطرية جبلية ليشترك في أول عملية قمع ضد الكرد في السليمانية عام 1924، حيث توالت تشكيلاته تباعا لتتوزع على مناطق العراق شمالا، ووسطا، وجنوبا ألوية أخرى ثم فرق ليستقر مع أواخر الحكم الملكي ثلاث فرق هي:

أ. الفرقة الأولى ( مشاة ) وتتواجد في الجنوب الممتد من الحلة ( بابل ) وحتى البصرة جنوبا.

ب. الفرقة الثانية ( جبلية ) تغطي المنطقة الشمالية بدءا من كركوك فالموصل وانتهاء بالحدود التركية في الشمال، والإيرانية في الشمال الشرقي .

ج. الفرقة الثالثة ( مدرعة ) تتواجد في بغداد، ومسئوليتها بالإضافة إلى منطقة بغداد تمتد إلى غرب العراق " الرمادي " المحاذي، للأردن وشرقه حدود إيران " بعقوبة ".

ج. مدعومة جميعها بمدفعية مجحفلة في أغلبها، وقوة جوية توزعت أسرابها توزيعا لتغطي ساحة عملياتها كل أنحاء العراق، وتلائم التوزيع الحاصل للقوات البرية، وقوة نهرية بغاطس بسيط يصلح للعمل في منطقة الأهوار التي تثير القلق للحكومة المركزية.    

2. وهكذا كانت توزيعات الجيش العراقي وتنظيماته التي تأسست على تلك الرؤية " الإنجليزية " المتناغمة مع تصورات الحكومة الملكية، للتهديدات الداخلية وإلى حد ما النظرة البعيدة لأعداء العراق المحتملين، والقدرة المتيسرة للتعامل مع واقعهما، واستمرت كذلك منسجمة مع هذا التصور، وعدد سكان العراق، وقدرة خزينة الدولة لتَحَمُل أعباء الدفاع وتطوير الجيش في مرحلة ما قبل الاستثمار الواسع للنفط، فكان تنظيما بسيطا، وتوزيعا شاملا انعكس على طبيعة أهدافه المحددة، وعلى شكل تعامله مع متغيرات السياسة، التي لم يكن بعيدا عنها رغم محاولة الحكومة إبعاده عن التقرب إليها جهد الإمكان، إذ أن الحكومات الملكية نجحت وبنسب ليست قليلة في إبعاد ضباطه وجنوده عن الانتماء إلى الأحزاب السياسية بسنها قوانين تحرم ذلك، لكنها لم تنجح في تكوين عقيدته العسكرية " كما ذكر من قبل " ولم تنجح في صياغة أهدافه السوقية صياغة تلتزم هي أولا بالتقيد في عدم مطالبته تجاوزها، فكونت تناقضاتها هذه مساحة واسعة لتحركه السياسي بنهايات يصعب التحكم بها في بعض الأحيان كما في الأمثلة الآتية:

أ. الاشتراك في محاولة بكر صدقي عام 1936 لاستهداف تغيير الحكومة دون إطاحة الحكم الملكي. 

ب. تحرك الجيش في حكومة رشيد عالي ضد تحالفات الدولة عام 1941 واشتراكه في حرب ضد الإنجليز، كادت أن تودي بالملكية لولا تفوق قوات لهم أرسلت من الأردن في معركة سن الذبان.  

ج. تقرر إرسال قطعات عسكرية عراقية عام 1958 إلى خارج العراق بينها اللواءين التاسع عشر والعشرين اللذان حولا اتجاهاتهما بالضد من الحكومة حال وصولهما بغداد فأطاحوا بها والملك وغيروا حاضر العراق ومهدوا لمستقبله غير المستقر.  

3. وهكذا استمر الحال مع الجيش العراقي أداة للسياسة دون الخوض أو التمعن بالسياسة حتى عام 1958 الذي يعد نقطة التحول الأولى في تاريخه الطويل، قربته سريعا من التدخل في جوانبها خارج سيطرة الزعيم الركن "العميد " عبد الكريم  قاسم (الذي أدار وجهة لواءه التاسع عشر، واللواء العشرين الذي يقوده العقيد الركن عبد السلام محمد عارف عند مرورهما باتجاه الحدود الغربية لدعم الحكومة اللبنانية آنذاك، ودخلا بغداد بالتعاون مع وحدات أخرى في داخلها ليضربا القصر الملكي، ووزارة الدفاع، وبيوت البعض من الوزراء، وكان التنفيذ بطريقة هستيرية أعطت مجالا لقتل من كان موجودا من العائلة المالكة وبعض رجال الدولة، وسحل ولي العهد الأمير عبد الإله ومن ثم رئيس الوزراء نوري السعيد والتمثيل بجثثهما ثم تعليقها بأماكن عامة وعلى بوابة وزارة الدفاع، فكانت سابقة كونت فوضى، وضغوطا أدخلت العسكر في دوامة الهياج الجماهيري، وقربتهم في التعامل مع السياسيين المعنيين به " الهياج " فكان إقحاما طوعيا في الدخول إلى السياسة، أول من دفع ثمنه عبد الكريم قاسم الذي أطيح به من الضبط البعثيين في 8 شباط 1963 في حركة لم يستطع في انفعال أفرادها أن يحصل على قبر معلوم) وهذا أستخدام بطريقة إنفعالية سمــحت لمشــاعر العدوان لأن تنفلت دون ضوابط، وأوجدت سـوكا، عند البعض من العسكر ( خاصـــة بين الضباط ذوي الرتب الكـــبيرة ) قوامه:

التفتيش عن ثمن التنفيذ المبالغ فيه، وعندما لم يحصلوا عليه بطريقة الترقيات التقليدية، أو عن طريق سلسلة المراجع الاعتيادية، قبلوا الانضمام إلى الأحزاب السياسية لتعينهم على قبض الثمن ويعينوها على تحقيق أهدافها في السيطرة على الحكم، دون أن نستثني المشاعر الوطنية التي أطلقت الثورة لها العنان فدفعت البعض من العسكر ( خاصة الضباط بالرتب الصغيرة وضباط الصف والجنود ) إلى الانضمام للأحزاب السياسية ضنا منهم أنها قادرة على تحقيق آمالهم في تقدم العراق ووحدة الأمة العربية، فكان طريقا بشقيه قاد إلى تدمير العراق وتكرار تعرضه لأزمات مستمرة.       

4 . لكن عبد الكريم قاسم لم يتوقف عند خطأ تعزيز فكرة الثمن"غير المقصود"  بين كبار الضباط عندما شكـــل أول حكومة له مــن العسكريين المساهمين بالثورة، والمؤيدين لهـــا، ولا عند خطأ اللعب على الصراعات الحزبية في الجيش، بل وارتكب الخطأ الأكثر جسامة عندما لم يبادر إلى تكوين المؤسسات الدستورية القادرة على إيجاد التوازن بين الدولة وأهدافها الاستراتيجية من جهة والتطلعات الخاصة للضباط وخلاياهم الحزبية في الجيش من جهة أخرى ولم يبادر في إعداد عقيدته العسكرية، وبذا أبقى أهداف الجيش في الدفاع عن المجتمع العراقي، وأرض الدولة العراقية ضبابية أو غير منظورة، وبدلا عنها أصبح السعي للاشتراك المباشر في حكم الدولة والتدخل في شؤونها أكثر الأهداف وضوحا في الذاكرة القريبة لعديد من الضباط القادة في فترة حكمه التي لم تصل إلى خمس سنوات. رغم إنه " أي عبد الكريم قاسم" حاول بداوفع مهنيته المعروفة ووطنيته التي لا غبار عليها أن يقلل من تلك التوجهات، وأن يطور من كفاءة الجيش، ويعيد تسليحه، ويقلل من أثر الطائفية في قياداته، لكنه لم يستطع بلوغها نتيجة لتسارع الأحداث والانفتاح النسبي على الأحزاب السياسية التي دفعت شبابها المُنَظَمِين حزبيا إلى القبول في الكلية العسكرية والقـــوة الجوية، وإلى تنشيط تحرك الضباط الذين لهم ميول حزبية سابقة أو رؤية سياسية مؤيدة، وإلى استثمار دخول العديد من الحزبيين خريجي الكليات المدنية إلى الجيش كضباط، فكانت حركة نشطة لتكوين خلايا سرية للأحزاب، وتوجه مضاد للحكم، حتم نهايته بطريقة مأساوية.

5. كما أن تحسس عبد الكريم قاسم من الغرب وتوجهه للتعامل مع التهديد الخارجي المحتمل بخبرة سياسية محدودة دفعته إلى توسيع الجيش العراقي بإضافة فرقتين إلى تنظيمه، وإحالة الضباط المحسوبين على النظام الملكي على التقاعد، الأمر الذي فتح المجال أمام الشباب العراقي الذين لم يجتازوا الثانوية للتطوع في الجيش بصفة نواب ضباط حربيين، يُرَقَوّنَ إلى رتب ضباط بعد خبرة عملية لا تقل عن ثلاث سنوات، وهذا متغير إضافي جعل بعض الأحزاب السياسية ومنها الشيوعي وبعده حزب البعث إلى دفع أعضائهم ومؤيديهم الشباب إلى التطوع في الجيش آنذاك فكونوا بتطوعهم خلايا سرية لأحزابهم في طول الجيش وعرضه كان لها الأثر المباشر في قيام محاولات عدة لقلب نظام الحكم مثل:

حركة الشواف ذات الاتجاهات القومية في الموصل عام 1961.

ومن بعدها حركة 8 شباط البعثية عام 1963.

وحركة حسن سريع الشيوعية في معسكر الرشيد.

وأخيرا  انقلاب البعث العراقي عام 1968.


الجيش العراقي والسياسة في فكر حزب البعث                     

1. كانت لحزب البعث العربي الاشتراكي قبل عام 1958 خلايا منظمة في الجيش العراقي قليلة جدا ومبعثرة، أو على الأغلب ضباط منظمين في خلايا حزبية خارج الجيش. وأيا كانت الحقيقة ، فإنه ـ أي حزب البعث ـ لم يكن ذا تأثير واضح في مسيرة ثورة تموز التي جاءت بدوافع اعتقد قاسم بوطنيتها وكذلك تنظيم الضباط الأحرار. ( على الرغم من الشكوك التي أثيرت عنها فيما بعد كما ورد على لسان أحد الضباط  الذين عاصروها على أن ضابطا من الانضباط العسكري كان في دورية روتينية في شوارع بغداد ليلة 13/14 تموز قد استوقفه السفير الإنجليزي مستفسرا عن وصول اللواء 19 إلى بغداد، وهو اللواء الذي يفترض أن يتوجه إلى حدود العراق الغربية مرورا ببغداد تلك الليلة، ويستنتج أولئك الضباط أن الإنجليز لهم علم بالثورة، كما أن البعض أكد على أن نوري السعيد آخر رئيس وزراء عراقي إبان الملكية، وبعد تيقنه نجاح الثورة كرر عبارة أثناء تخفيه في بيت السربادي باللهجة العراقية الدارجة         "سَوّوهة الإنجليز").

عموما إن تشكيلة الحكومة بعد نجاح الثورة لم تضم بينها أحد من الضباط البعثيين الأمر الذي يؤكد أن الحزب لم يكن طرفا مباشرا فيها، لكنها وفي فترة لاحقة ضمت فؤاد الركابي أمين سر القيادة القطرية للحزب على ضوء توجهات عبد الكريم قاسم لتشكيل حكومة وطنية من التيارات السياسية الموجودة على الساحة.    

إلا أن تحركــات حزب البعث في الجيش كان سريعة بعد محاولة اغتيال عبد الكريم عام 1961 من بعثيين مدنيين، حيث الاستثمار الجيد لتلك الظروف، وحسن صياغة الأهداف وبراعة تسويقها بديلا عن طروحات الحزب الشيوعي الذي أتعبته أحداث ما بعد الثورة، وقيدت حركته تحديدات الاتحاد السوفيتي في التعامل مع عبد الكريم قاسم، وكانت الحصيلة نجاح البعث في قلب نظام الحكم لصالحه في 8 شباط 1963 بدعم غربي أكده عديد من قادة الحزب الذين انشقوا عنه في فترات لاحقة، فكانت تلك بداية التسييس المقنن للجيش العراقي وظهور فكرة الجيش العقائدي الذي يتأسس على عدة مرتكزات أهمها:

أ. تعميم نشر المنظمات والخلايا الحزبية البعثية (فقط ) على كافة وحدات ومؤسسات الجيش العراقي لممارسة العمل السياسي بشكل علني.

ب.استلام الضباط الحزبيين المناصب القيادية خارج أطر القدم والتأهيل التي اعتاد الجيش العراقي التعامل معها في سياقات التعيين.

ج. نشر الثقافة الحزبية البعثية على مستوى الجيش.

د. التحكم بمنافذ الترشيح والقبول للكليات العسكرية، مع حث الأعضاء والأنصار والمؤيدين للتقديم إليها والدورات المختلفة.

هـ. تقليص الدراسة في الكليات العسكرية، وضغط المراحل الزمنية لتخريج أكبر عدد من الضباط الأحداث كقاعدة حزبية واسعة. 

و. قبول أكبر عدد ممكن من خريجي الكليات المدنية في كلية الاحتياط واختصار فترة إعدادهم إلى ثلاثة أشهر بدلا من ستة لتأمين نفس الغاية المذكورة في (هـ) أعلاه.

ز. دفع الشباب المنتمين إلى الحزب ومؤيديه إلى التطوع في صنوف الجيش العراقي بصفة جنود وضباط صف مع إغرائهم بالترقية إلى درجة الضباط مستقبلا بضوابط جديدة فرضها الحزب على سياقات الترقية المعروفة في الجيش.

ح. تقريب الجيش من الشارع العراقي وذلك بتكثيف الاستعراضات العسكرية والتوسع بتكليفه بمهام الحراسة والأمن الداخلي.

ط. إعطاء الاستخبارات العسكرية دورا في الأمن الداخلي خارج واجباتها في جمع المعلومات الاستخبارية عن الأعداء والأعداء المحتملين، ومكافحة التجسس في الجيش والمؤسسة العسكرية.

ي. إضافة ضباط منحوا رتب كبيرة إلى القيادة القطرية في العراق ، مثل اللواء أحمد حسن البكر والفريق الركن صالح مهدي عماش واللواء الطيار الركن حردان عبد الغفار  واللواء طاهر يحيى وآخرين، بأوامر التصعيد من أمين سر الحزب ميشيل عفلق ليكون العسكر وبقوة مناصبهم العسكرية فاعلين بدرجة أكثر في سياسة العراق الداخلية. 

2. لكن ذلك لم يستمر طويلا إذ انقلب عبد السلام على البعثيين الذين أتوا به  لرئاسة الجمهورية كرمز يستندون عليه لملأ الفراغ الذي يتركه عبد الكريم قاسم، والارتكاز عليه قوميا، بتوجهات دينية في حربهم مع الشيوعيين كأحد أهم الأهداف المعلنة لحركتهم آنذاك، وفي انقلابه يوم 18 تشرين 1963، أوقف أو حدَّ من التوجه العقائدي للجيش العراقي خمسة سنوات لاحقة تميزت الثلاثة الأولى منها بمحاولات جادة من قبله وضباط قادة لإعادة ترتيب الجيش على أسس بعيدة نسبيا عن السياسة وإعادة تحديد أهدافه في مجال الدفاع والأمن الداخلي، بإجراءات عدة بينها:

أ. إيقاف إطلاق النار مع الأكراد في الشمال ومحاولة تسوية مشكلتهم والحكومة المركزية سلميا.

ب. إحالة الضباط البعثيين على التقاعد جماعيا، وتعيين آخرين بوظائف مدنية، وسجن البعض الآخر لفترات محددة.

ج. تسريح طلبتهم في الكليات العسكرية، وفسخ عقود ضباط الصف والجنود الذين ينتمون إليهم.

3. لكنه ورغم تلك الإجراءات وغيرها لم يستطع التخلص من التوجه السياسي بأشكاله الأخرى، لأنه وبحكم حاجته لتيار منافس لضرب البعثيين، وبحكم صفة القومية التي حاول التمسك بها ظاهريا أبقى التيار القومي الناصري الذي كان موجودا في الجيش العراقي بمستوى لا تقل سعته في بدايات الحكم الجمهوري عن التيار البعثي الذي تحالف معه في التحرك ضد عبد الكريم، لكنه لم يستطع المنافسة لاعتبارات يتعلق بعضها بإشكاليات تنظيمية، وبعضها الآخر بنقص الدعم والإسناد الخارجي، وهو تيار مثله في الجيش إبان تلك الفترة اللواء الطيار الركن عارف عبد الرزاق  قائد القوة الجوية، واللواء الركن عبد الكريم فرحان مدير الحركات العسكرية، والمقدم الركن عرفان عبد القادر وجدي، وآخرين حاولوا استباق البعثيين وتغيير نظام الحكم قبل 1968 لكنهم فشلوا رغم سيطرتهم على عديد من المراكز المهمة في الجيش والدولة.

كما إن جهوده لم تفلح بالقضاء تماما على خلايا حزب البعث التي خلايا حزب البعث التي عاودت تنظيمها السري بشكل كفء في وحدات الجيش ودوائره المهمة، خاصة في السنتين الأخيرتين من حكم شقيقه عبد الرحمن، وبذا عدَّت هذه الفترة، مرحلة تمهيد لعودة الحكم البعثي الثاني عام 1968. وبدء مرحلة من التاريخ السياسي للجيش العراقي تعد الأكثر أهمية وتأثيرا على واقعه من جهة وعلى مستقبل العراق وحصول أزمته الحالية من جهة أخرى، ونظرا لأهميتها وطبيعة التعامل الحكومي معها يمكن تقسيمها إلى مرحلتين كانت الأولى ذات صلة بحكم اللواء أحمد حسن البكر، وكانت الثانية برئاسة صدام حسين الذي منح رتبة فريق في زمن البكر، ثم مهيب بعد القضاء عليه" البكر"وتولي رئاسة الحزب والدولة.

أ. المرحلة الأولى أحمد حسن البكر : 1968 ـ 1979  

أولا. أتفق البعث العراقي مع العميد الركن إبراهيم عبد الرحمن الداود، والمقدم الركن عبد الرزاق النايف (وهما ضابطان محسوبان على القصر الجمهوري، لأصولهم القريبة من إدارة الدولة آنذاك أي الدليم، ومن الموثوق بهم من قبلها.

قَبِلَ الأول اتفاقا مع البعثيين بتأثير أخيه العضو في حزب البعث يستلم بموجبه وزارة الدفاع ثمنا لدوره في الانقلاب.

وقبل الثاني عرضا لرئاسة الوزارة ثمنا لسكوته بعد أن فاجئهم بمعرفته توقيت الانقلاب بحكم إدارته للاستخبارات آنذاك.

لذا لم يجد الحزب خيارا سوى المساومة والمناورة عليهم بعد النجاح، وهذا ما حصل بالفعل في الحركة المذكورة بعد أن أرسل الوزير إلى الأردن لزيارة القطعات العسكرية وأبلغَ بتنحيته هناك، وأعتقل الثاني في القصر الجمهوري بحركة من صدام والبكر، اللذان اتهماهما بالرجعية والعمالة للأجنبي، وقاما بنفيهما خارج العراق حيث استقر الأول في السعودية حتى وقتنا الراهن، والثاني بقيَّ في إنجلترا حتى اغتياله فيها من قبل المخابرات العراقية).    

لقد أتفق الحزب معهما على التحرك وقلب نظام حكم الرئيس عبد الرحمن عارف، وتم لهم ذلك في 17 تموز 1968، لكن الحزب الذي ينظر بعيدا أكثر من أطراف الاتفاق الأخرى وقام بالتآمر عليهم، وإسقاطهم  بحركة مافيوية سريعة يوم 30 من نفس الشهر، قذفت بهم خارج العراق نفيا قسريا، وفسحت المجال لأفراده حكم العراق حكما مباشرا، لتكون هذه الحركة البداية الأولى للحزب في إخلاء الساحة وتجسيد فكرة تبعييث الدولة، والجيش سياقا غَيَّرَ مجرى الأحداث ورسم خريطة العراق باتجاه التوتر وإثارة الأزمات.

ثانيا. لقد جاء الحزب إلى حكم العراق هذه المرة بخبرة جيدة في الدهاء، والمناورة ودور يختلف إلى حد ما عن ذلك الدور الذي كلف به عام 1963، عندما تفرغ تماما لمهمة تدمير الشيوعيين وأهمل مهام أخرى للدولة بينها تقوية أسس البقاء، ودعم الجانب العقائدي للجيش، وحاول هذه المرة عدم الغرق في ذلك المستنقع بنفس الطريقة ولا في مستنقع الوظائف الحكومية بعد أن أفرغ بعض كوادره العسكر والمدنيين لأغراض الحزب وشد التنظيم، وكلف آخرين بالمهام الوظيفية الرسمية وغير الرسمية، وسارع إلى تنفيذ خطة تبعييث الجيش، ومن ثم تدجينه فور نجاحه بالسيطرة على الحكم على وفق خطوات متتابعة منها على سبيل المثال:

(1). تعزيز سلطة الحزب، وسيطرته على مقاليد الأمور في الجيش بتسلسل تم بخطوات مقننة كالآتي:

(أولا). منح القدم العسكري للضباط الحزبيين ليتسلم القادة منهم المفاصل المهمة في الجيش، ويتولى الأعوان إدارة الوحدات العسكرية ذات التأثير المباشر على أمن الحزب والحكومة.

(ثانيا). منح نواب الضباط وضباط الصف الحزبيين رتب ضباط وتوزيعهم على وحدات الجيش لتأسيس خلايا حزبية وقواعد استخبارية لمراقبة ومتابعة الضباط المستقلين.

(ثالثا). الإسراع في نقل عديد من الضباط المستمرين بالانتماء إلى حزب البعث إلى وحدات بغداد خاصة تلك التي اشتركت بالانقلاب مثل اللواء المدرع العاشر، ولواء الحرس الجمهوري، وكتيبة دبابات 14 رمضان، ومديرية الاستخبارات العسكرية، وبعض المفاصل المهنة.

(2). إيجاد قاعدة عريضة من الضباط بتكوين فكري أقرب للسياسة منه إلى المهنية العسكرية لتتحمل عملية تدجين الجيش بأسرع ما يمكن وذلك من خلال:

(أولا). قبول كوادر حزب البعث من الأعضاء والأنصار المستمرين في العمل الحزبي ما قبل 1968 الذين لم يجتازوا الدراسة الثانوية وبمختلف الأعمار بالدورة الخاصة الأولى ومنحهم رتبة نائب ضابط تلميذ حربي ( ن.ض.ت .ح ) في أقل من ستة أشهر دراسة عسكرية مكثفة في كلية ضباط الاحتياط، وإلحاقهم أكثر من ألف آمر فصيل وضابط استخبارات، ومسئول للتنظيم الحزبي فيها.   

(ثانيا). قبول ما تبقى من أنصار الحزب ومؤيديه وأولئك الذين توقفوا عن العمل الحزبي لأسباب لا تتعلق بالأمور الفكرية أو الانشقاقية، والمستقلين المحسوبين على الحزب في الدورة الخاصة الثانية ومنحهم نفس الرتب المذكورة وتوزيعهم على الجيش أكثر من 1500 آمر فصائل ورعيل.

(ثالثا). اقتصار القبول في الكليات العسكرية على البعثيين الأنصار والمؤيدين، وزيادة عدد المقبولين فيها، وتقليص فترة الدراسة لغرض تخريج أكبر عدد ممكن من الضباط الحزبيين، وبأقصر فترة ممكنة.

(3). تكوين مفاهيم القسر والرهبة بين ضباط الجيش، لإبعادهم جهد الإمكان عن التفكير بأعمال غير مرغوب بها.

إذ بدأت بعد وقت قصير من سيطرتها باعتقال بعض الضباط المحسوبين على تيارات سياسية قومية أو يسارية أو مستقلين، واتهامهم بالتآمر، ومن ثم إعدامهم بطريقة تعطي الضباط الآخرين تصور عن قسوة النظام والكلفة العالية لعدم الامتثال إلى رغباته.  

(4). إعادة تشكيل الاستخبارات العسكرية العامة بشعب وأقسام جديدة تزيد من قدراتها في مجال متابعة الضباط، وتحقيق أمن أفضل لمسئولي النظام والمعلومات والمنشئات، وتأمين تحرك أحسن لمكافحة الأنشطة السياسية غير البعثية وتدعيم كوادرها بضباط حزبيين. 

(5). بناء الحزب بطريقة العسكر وإعادة بناء العسكر بمفاهيم وضوابط الحزب ليكون الجيش في محصلته النهائية خلية من خلايا الحزب، ويكون الحزب جيشا واسع الانتشار.

(6). توزيع مسئولية القيادة في الوحدات والمؤسسات العسكرية بين الآمر والمسؤول الحزبي، لتصبح في نهاية الأمر قيادة من النوع الأقرب للقيادة الجماعية التي يصبح فيها الآمر / القائد عضو في الخلية الحزبية، يتمتع بصوت فيها  أسوة بضابط الاستخبارات، وضابط التوجيه السياسي، وآخرين بإمرته عسكريا.

يقررون جميعهم جوانب كثيرة من عمل الوحدة خاصة ما يتعلق بالأمور الإدارية، والنقل، والترقية، والترفيه، وغيرها أعمال تؤكد في النهاية أن سلطة الآمر وقراراته باتت عند الحزب.     

(7). إعطاء دور أكبر لضباط الصف والجنود للعمل السياسي العلني داخل الوحدات إذ شكلت لها خلايا حزبية مستقلة في مستوى القواعد عن الضباط، لكنها تلتقي وإياهم في مستويات قيادة الفرقة والشعبة فأعلى، وكان لبعض ضباط الصف دور لا يستهان به، كما وصل عديد منهم إلى مستويات قيادية عليا في الجيش والحكومة، وما يزال البعض مستمرا في المراكز العليا للحزب والدولة حتى يومنا هذا( إذ منح على سبيل المثال ن ض طه ياسين رمضان رتبة رائد وعين بداية الانقلاب في أمانة سر وزارة الدفاع ليُنَضم نقل وتوزيع الضباط البعثيين على الوزارة والوحدات المهمة، ثم تفرغ لشؤون التنظيم في فترة لاحقة حتى وصل عضو القيادتين القومية والقطرية ونائب رئيس الجمهورية، ومنح العريف علي حسن المجيد رتبة فريق ركن وشغل منصب وزير الحكم المحلي ومن بعدها وزير الدفاع، وعضو القيادة القطرية للحزب، ومنح الجندي المطوع حسين كامل حسن رتبة فريق ركن وشغل عدة مناصب بينها وزير الدفاع، وتفرغ ن.ض كامل ياسين للعمل الحزبي في المكتب العسكري ليصل إلى عضو قيادة قطرية ... وغيرهم آخرين).     

ثالثا. إن هذه المرحلة التي تأسست عليها مراحل الخرق السياسي البعثي للجيش والقوات المسلحة والتمهيد لفعل الأزمة  تميزت بدقة التخطيط لتأمين غايتين تتداخل كل واحدة منهما مع الأخرى بشكل دقيق لينجزان معا هدف التدجين، هما:

(1). تبعييث الجيش. وكما ورد بالخطوات الواردة في أعلاه.

(2). تكرتة الجيش.

كان البعثيون مشغولون بالحكم الذي عاد إليهم بعد تجربة الخسارة المؤلمة في تشرين 963، وكان البكر مشغولا بهمومه في تعزيز طائفية السلطة. 

وكان الضباط البعثيين منتشين بالنصر مولعين  بالدفاع عنه، وكان صدام مشغولا بركائز تثبيت حكم العائلة والعشيرة في السلطة.

رابعا. وبين تلك الهموم والمشاغل تصرف كثير من كوادر الحزب بتلقائية البدو وعفوية المدينة، وتصرف البكر وصدام بدهاء القرية، ومكر العشيرة في معادلة صراع خفي خسر بنتيجته الكوادر حزبهم، وخسر الحزب كوادره، وكسب بنتيجته البكر إحدى عشر سنة من الحكم وبروز أكبر لدور الطائفة، وفاز بنتيجته صدام بالحزب أداة تملكها العشيرة، وبالجيش أداة تُسَيِّرها المدينة " تكريت "، وبالحكم هرمٌ وقف في أعلى كل تدرجاته المهمة رجال الطائفة، وجلس هو وعـائلته أعلى قمته إمبراطورا لم يشهد له العراق مثيلا منذ بدء حضارته الأولـى قبل آلاف السنيـن. علما أن تلك النتائج التي جاءت بعد عدة سنين قد تم تأمينها بخطوات مدروسة بدأ العمــل بها بعـــد أيام ليست قليلة من نجاح الانقلاب، وقد جرى التفكير فـي بعض جوانبها من بعض قادة الانقلاب ولو بصوت غير مسموع قبل تنفيذ فعل الانقلاب منها مثلا:

(1). إزاحة الأجيال الأولى للبعثيين العسكريين والمدنيين عن الطريق لأجيال شابة بأساليب الاغتيال، والحوادث والتكليف بالمهام الرسمية خارج القطر، ليعودوا بعد حين وقد بات تدرجهم في المواقع الحزبية وعلى وفق الديمقراطية البعثية آخر القائمة.

(2). تسليم مسئولية المخابرات العامة، ومنذ تأسيسها "مكتب العلاقات العامة" إلى صدام التي وجد فيها أداة جيدة للتصفية، والإزاحة، والتزكية، والتعيين، والتصعيد، وأخيرا قتل البكر واستلامه المركز الأول في الدولة والحزب. ( وبما يؤيد هذا التصور روت سيدة عراقية تعمل في مجال التمريض إلى أصدقائها المقربين قبل هربها إلى بيروت إثر موت البكر، أنها كانت مكلفة من قبل وزارة الصحة(الدكتور علوش) بزرق البكر حقنة دواء يوميا على حسب وصفة طبية معروفة، فوجئت أحد الأيام قبل موت البكر بمقابلتها من قبل سعدون شاكر"مدير المخابرات" وطلبه منها زرق البكر بدواء آخر لم يكن مكتوبا في تلك الوصفة، وقد امتنعت بحجة الالتزام بتعليمات الصحة، فاستبدلت بأخرى لإكمال المهمة، وخلال أسبوع من استبدالها توفي البكر).         

(3). انتقاء الضباط الأحداث من تكريت والمناطق المجاورة لها وإعدادهم لمستقبل القيادة في الجيش تجاوزا على توجيهات خاصة للحزب بعد عام 1970 تؤكد عدم جواز تنسيب الضباط الأحداث بعد تخرجهم من الكلية العسكرية إلى وحدات بغداد، إلا بعد مضي مدة لا تقل عن السنتين على خدمتهم في الوحدات الفعالة خارجها ، وبعد الانتقاء الدقيق يتم تنسيبهم إلى وحدات الحرس الجمهوري، وهم اليوم قادة لكثير من قيادات الجيش العراقي.

(4). وضع آلية معقدة للقبول في كلية الأركان تعتمد على أساس الموافقة الأولية للوحدة والقيادة التي ينتسب إليها الضابط على الترشيح، تصحبها موافقة المنظمة الحزبية التي يعمل الضابط ضمن مسئوليتها التنظيمية، ومن ثم موافقة الاستخبارات العسكرية، ومن بعدها المكتب العسكري الذي يصدر قوائم الترشيح الأولي، ليخضع المتقدمين إلى اختبار نفسي، ومقابلة خاصة كان يرأس فريقها عدنان خيــر الله ولحين استيزاره لوزارة الدفاع.

وتلك الآلية كانت بقصد وضع الكثير من الفلاتر "أي المرشحات" لإبعاد غير المرغوب بهم، وتسهيل قبول من يراد قبولهم طائفيا ومناطقيا.

(5). وضع ضوابط مطاطة لإعداد وتهيئة ضباط الركن لمناصب القيادة في الجيش تتأسس على عدة خطوات تراتبية:

تنسيب من يكمل الدراسة في الأركان كضابط ركن في مقرات الألوية، لينتقل بعدها إلى مقرات الفرق، ثم يعاود العمل بمنصب مقدم لواء، ليكون مؤهلا لاستلام منصب آمر وحدة، يقضي فيه عدة سنوات ينتقل إلى ثاني حركات ثم أول حركات في الفرقة والفيلق ليكون مؤهلا لإشغال منصب آمر لواء، وهكذا يعمل ضابط الركن رئيس أركان فرقة ليكون مناسبا لتسلم منصب قائدا لها، وهذه ضوابط وخطوات إعداد تأخذ وقتا طويلا لا غبار عليه في ظروف الإعداد السليمة، إلا إذا وجدنا أن كثيرا من الضباط التكارتة على وجه الخصوص وآخرين من مناطق قريبة لم يخضعوا لها، وقد نسبوا آمري وحدات بعد تخرجهم من كلية الأركان مباشرة، ونسب آخرين آمري تشكيلات وهم برتب صغيرة ولم يعملوا ضباط ركن في المقرات بينما ضاع في طول مسافتها كثير من ضباط الركن من مناطق العراق الأخرى لا يقلون عن أقرانهم التكارتة في مستوى الكفاءة ولا يختلفون عنهم إلا في موضوع الطائفة، والمنطقة.( ولنا في هذا الجانب أمثلة كثيرة بينها تنسيب ماهر عبد الرشيد إلى منصب آمر كتيبة وهو برتبة م.أول ركن، ليصل إلى قائد فيلق، وضباط ركنه من الدورات التي تسبقه في الكلية العسكرية وكلية الأركان بعدة مراحل، ونسب ثابت سلطان آمر كتيبة دبابات وهو نقيب ركن، ووصل قائد فيلق، وضباط من دورته في الكلية العسكرية آمري وحدات في فرق فيلقه، وكذلك أحمد حماش وآخرين). 

(6). مع كل تلك الضوابط التي تسهل وصول البعض وتعيق مسيرة البعض الآخر وضعت القيادة مُفصَلا دقيقا يرتبط بها معنيا بالقبول والترشيح خاصة للكليات العسكرية والدورات، وعينت مسؤولا عنه باستمرار ضابط تكريتي برتبة كبيرة وبـدرجة حزبية متقدمة، وبشخصية إنسانية مطاوعة، وقد شغل هذا المنصب اللواء ناجي مجيد لأكثر من عشرة سنوات كافية لقبول وتخريج وإعداد آلاف الضباط التكارتة.

خامسا. إن مرحلة البكر التي دامت إحدى عشر سنة وتبعا للمعطيات التي جاءت فيها والأحداث التي تكررت خلالها، وأساليب التعامل معها يمكن عدها مرحلة مهدت أو أسست قواعد الانحراف والتخريب في الجيش والقوات المسلحة العراقية، لأنها:

(1). مرحلة شهدت اتجاهات للتخلص من كوادر الحزب العقلانية التي تحتفظ وإلى حد مقبول ببعض القيم والتقاليد السياسية والعسكرية للتعامل مع الواقع بما يحول دون إنهياره، ومهدت لصعود جيل من الانتهازيين الوصوليين الذين يرون في مصالحهم غاية لا بد من تأمينها، ولو بوسيلة حرق الآخرين وتدمير الجيش، وكان هذا الجيل هو القائد الفعلي للمرحلة الثانية مرحلة الأزمة.

(2). إنها مرحلة ساهمت فيها أساليب التعامل الحزبي بالتغيير القيمي على مستوى المعايير والضوابط العسكرية، إذ أوجدت على سبيل المثال سلطة المسئول الحزبي موازية، ومتفوقة أحيانا على سلطة الآمر، وأكدت رأي الحزب في التقييم والترشيح والترقية أعلى من رأي الوحدة والقيادة، وأعطت ضابط الصف وضعا للمطالبة والنقد والاحتجاج، خارج منزلته العسكري ، فقرب هذا التغيير الجيش بالتدريج إلى صيغة المليشيات، وأبعده بالتدريج عن المهنية والاحتراف العسكري.

سادسا. كانت فترة العقد الأولى أي مرحلة البكر بداية لانحسار الضبط العسكري لعموم الجيش العراقي لأسباب بينها:

(‍1). التدخل الجاري من قبل الحزب والمسئولين السياسيين في شؤون الوحدات والآمرين.

(2). التركيز في قضايا التعليم والتثقيف على مفردات السياسة كماً يفوق كثيرا مفردات العسكرية، ومستلزمات الضبط.

(3). عمل الحزب لحرف الولاء بين الضباط وضباط الصف والجنود من ولاء تقليدي للمؤسسة العسكرية، إلى ولاء انتهازي للمؤسسة السياسية ( الحزب ).

(4). التقليل المتعمد لقيمة الضابط في الجيش ولقيمة الوحدة والتشكيل، وإعلاء شأن المنظمة والفرقة الحزبية.

(5). استخدام سياسة الترهيب في عموم الجيش كوسيلة لإيجاد نوعا من الضبط القسري ( إذ لم يكن  لدى الجيش العراقي على سبيل المثال سجنا للضباط قبل 1968 سوى سجن رقم واحد في معسكر الرشيد الذي يستخدم لإيواء السياسيين في المستويات المتقدمة، ولم يكن لدى الاستخبارات سجنا خاصا بها لغاية عام 1970، حتى بنت وبأمر القيادة سجنا في مقرها الجديد بالكاظمية يعد السجن رقم واحد متنزها للراحة والاستجمام بالمقارنة مع غرفه الانفرادية، ووسائل التعذيب في داخله، ودهاليزه التي بناها اليوغسلاف بمواصفات خاصة. ولم يكن بالإمكان توقيف ضابط قبل العام 1968 إلا بموافقة رئيس أركان الجيش ولأي سبب كان، ولم يصادف أن عوقب ضابط بعقوبة إلفات النظر إلا ما ندر، وعلى العكس ما بعده، أصبح توقيف الضابط يسبق الموافقة تحقيقا لمبدأ الأمن، وأصبحت العقوبة مسألة طبيعية واجهها كثير من الضباط) فأوجدوا بالتدريج هذا النوع من الضبط كبديل عن الضبط الطوعي الذي يبنى في التدريب والتثقيف العسكري والتعامل وفقا للمعايير والضوابط العسكرية.

سابعا. إنها المرحلة التي بدأت فيها فلسفة الحزب بتطبيق ما سمي في حينه كسر شوكة الجيش، لإبعاده عن احتمالات التآمر وقلب نظام الحكم، وبدأت فيها أساليب التعامل مع الضباط خارج السياقات العسكرية، هذا وتبين الوقائع والأحداث التي مرت بالجيش العراقي خلال هذه الفترة ومقارنتها بالفترة التي أعقبتها أنهما فترتان من الناحية العملية ليستا منفصلتين، بل متصلتين تمهد فيهما الأولى لما جرى في الثانية، ويتبين أن لمسات صدام حسين كانت واضحة على هذه المرحلة، وإن كان الرجل الثاني بروتوكوليا، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنه شغل بالإضافة إلى مناصبه المتعددة نائب أمين سر المكتب العسكري الذي كان البكر أمينا لسره، ولمعظم تلك الفترة.     

ب. المرحلة الثانية صدام حسين : 1979 

أولا. تعد المرحلة الثانية وبكل المعايير استمرارا وتكملة للمرحلة الأولى وكما مبين في أعلاه، لأنها لم تختلف كثيرا عنها سوى في الشدة والسرعة التي استخدمت للوصول إلى الغاية، وهي في الواقع لم تختلف من حيث المعنى، والميل، والرغبة، والأسلوب حتى عن مرحلة حكم الحزب القصيرة عام 1963، وهذا يعطي مؤشرا يثير عديد من علامات الاستفهام عن الفكر وأساليب التطبيق وطبيعة الأهداف التي لسنا بصددها في موضوعنا هذا.

لكننا ومن جانب آخر لابد لنا أن نشير إلى أن الطريق للوصول إلى ذات الغاية في مسألة تتعلق بالجيش والعسكرية، وفي مجتمع مثل العراق لابد وإن يختلف في مجالها المنفذون تبعا لطبيعة الشخصية، ونوع التنشئة، والالتزام المهني (العسكرية)، وتلك كانت من العوامل التي  حكمت الأساليب المتبعة في المرحلتين "اللتين فُصلِتا في هذا العرض لمجرد المساعدة على فهم الوقائع الجارية" وأوجدت فروقا نسبية في التعامل مع متغيراتهما، والتي يمكن تلخيصها بالآتي:

(1). لم يكن البكر راغبا في الإسراع بخطوات التبعييث والتكرتة التي يتفق مع صدام بوضعها هدفا سوقيا لهما، وبذا لم يوافقه على إحالة الضباط الكبار من غير البعثيين على التقاعد مرة واحدة أملا في الاستفادة من خبراتهم في تطوير الجيش العقائدي إلى أبعد الحدود الممكنة من ناحية، وعدم استعداده لإثارة ردود فعل سلبية تحسب على شخصه من ناحية ثانية.

(2). كما لا يميل البكر إلى تسليم مسئولية القيادة إلى ضباط أحداث مثلما يراها صدام ضرورة للتخلص من تهديدات الانقلاب والتمرد، ويرى في دور الصغار مراقبة ومتابعة حركة الكبار كافية في المرحلة التمهيدية ولحين تهيئتهم إي الصغار بما يكفي لتحميلهم تلك المسئولية.

(3). كذلك فإن الخدمة العسكرية الطويلة للبكر في بعض وحدات الجيش دفعته إلى التعامل مع الكثير من الضباط غير الحزبيين والضباط البعثيين من الوسط والجنوب تعاملا فيه بعض المعايير العسكرية المقبولة رغم إصابته بداء الطائفية، وعلى العكس من صدام الذي يحمل في داخله إيحاءا مضادا للعسكر بسبب عدم تمكنه القبول في الكلية العسكرية بداية شبابه، وبسبب حياته المدنية الخاصة، ووجهات نظره التي ترى في الجيش خطرا على الثورة إن لم يجر استمالة ضباطه، وكسبهم، وتركيعهم، خطوات لتدجين الجيش بأكمله. 

ثانيا. كما إن صدام يعاني مشكلة الزمن أو ضغط الزمن التي تدفعه إلى التسرع للوصول إلى الغاية فكانت خطوته الأولى بعد توليه منصب رئيس الدولة، والقائد العام للقوات المسلحة، وأمين سر القطر عام 1979 تصفية الجيل الأول والثاني من البعثيين العسكريين أسوة بالمدنيين في حادث المؤامرة السورية المفتعل عام 1979( والجيل الأول من البعثيين العسكريين أمثال الفريق الركن صالح مهدي عماش، واللواء عبد الكريم مصطفى نصرت، وآخرين تم القضاء عليهم بطرق مختلفة تتفاوت من الاغتيال، والاتهام، والحكم بالموت كما حصل لعبد الكريم، والتعيين بمنصب السفير في الخارج ثم السم خطوة لاحقة بالنسبة إلى عماش، أما الجيل الثاني مثل الرائد صلاح صالح، والعقيد الركن حامد الدليمي، واللواء الركن وليد محمود سيرت، والعقيد الركن فارس حسين، والعقيد الركن محمد عبد اللطيف، وآخرين فقد تم التخلص من بعضهم في حوادث طائرات، وسيارات متفرقة، ومجموعة كبيرة اعدموا في المؤامرة المزعومة أو في معطيات اتهام مختلفة). وكان ذلك يجري بخطى متواترة للتمهيد إلى صياغة الجيش العقائدي، والتسريع بعملية التدجين على طريقته الخاصة، فكان الإعدام، والسجن لمدد متفاوتة أحكاما حددت مسبقا لتطال أكثر من عشرين ضابطا من كوادر الحزب المتقدمة بضربة واحدة، وبطريقة تؤمن أكثر من غاية بينها:

(1). الرغبة في التخلص من البعثيين العسكريين الذين استلموا مسئولية قيادية في زمن البكر والذي يمكن أن يعيق وجودهم استلام العائلة والعشيرة مسئولياتهم في الحكم الجــديد، وهنا تجدر الإشارة إلى أن صدام قد أوعز إلى عدنان خير الله ليعد قائمة بالضباط الذين يسبقوه في القدم العسكري، والذين لا ينسجمون مع وجوده وزيرا للدفاع في الإدارة الجديدة، فكانت قائمة من البعثيين العسكريين وصفوا بالاعتدال والعقلانية في حينه، وكذلك أمر أشقائه برزان ليعد أخرى تساعد على تسنمه مهام مدير المخابرات، وسبعاوي لمنصب مدير الأمن العام ووضبان لوزارة الداخلية. فكانت قوائم من العسكريين والمدنيين لم تتوقف على القِدَمْ العسكري والحزبي فقط، بل وفي ظروف البيئة العراقية وتركيبة العائلة زحفت إلى دوافع الحقد الشخصي الذي وجد فيه البعض منهم فرصة لتصفية الخصوم والمفاصل التي تعيق الصعود السريع للمناصب القيادية.

(2). تكوين صدمة انفعالية شديدة في داخل الجهاز العصبي للضباط بشكل عام والحزبيين الذين كانت لهم ارتباطات نفسية مع المعدومين بحكم التعامل وإياهم لفترة من الزمن ليست قصيرة على وجه الخصوص، صدمةٌ تساعد على تقبل كل جديد يصدر عن مصدرها "الحاكم ومساعديه" وإن كان الجديد من النوع غير المألوف بالنسبة إليهم.

(3). تكـــوين أرضية خصبة لتعميم الخوف في نفوس العسكريين، البعثيين منهم وغير البعثيين، من خلال إشعارهم أن قادتهم قد تم التعامل معهم، وتصفية البعض منهم بطريقة بشعة، بقصد تكوين سلوك التجنب والابتعاد عن المساس أو التفكير بالتقرب من مثيراته "أي الخوف" التي تتعلق بالحاكم والحكومة، وذلك من خلال: 

(آ). التحسس سمعيا، عن طريق النشر المقصود لحكايات متعددة الجوانب عن سيناريوهات المؤامرة، ونوايا المشتركين فيها التي تناقلها الجهاز الحزبي وعموم العراقيين إشاعات واسعة الانتشار ( إذ أن الجهاز الحزبي قد عاش إبان تلك الفترة حالة رعب عَبَّرَ عنها أحد كوادر الحزب المتقدمة آنذاك بأن الحابل قد أختلط بالنابل، إذ لم يعد يعرف الحزبي وخاصة من عضو شعبة فما فوق أنه قد اختير من بين القرابين المطلوب التضحية بها على عتبة استلام صدام للسلة، والقوائم التي باتت تصدر من الرئاسة مباشرة، كانت تشمل وزراء يجري اقتيادهم من وزارتهم بطريقة مهينة أمام الموظفين، وأعضاء في القيادة القطرية كانوا يهانون أثناء توقيفهم من قبل جنود في حمايتهم أمام الجميع، وضباط في المكتب العسكري كانوا يُقَيَدونَ وهم جالسين على مكاتبهم، وتعصب عيونهم ويضربون بأخمص البنادق، وأعضاء فروع يسحبون من ندوات حزبية كانوا يتكلمون فيها عن أبعاد المؤامرة، وهذه إجراءات كانت متعمدة لخلق حالة من الخوف والرعب بقيت تلازم العسكر العراقي من ذلك التاريخ حتى وقتنا الراهن). 

(ب).التحسس بصريا حيث العرض المقنن لأفلام فديوية مسجلة لاعترافات وهمية مدبلجة، أو أخذت بالإكراه كما هـــو الحال بالنسبة لعبد الحسين المشهداني عضو القيادة القطرية، والوقائع الخاصة بتلاوة أسماء البعض من المتهمين التي سجلت لتعرض على الجهاز الحزبي. وكذلك الاشتراك الفعلي لرفاق معدومين في مراسم إعدامهم.

(4). تهيئة قادة عسكريين من بعثيي  الجيل الثالث:

لا توجد في ذاكرتهم خبرات ما يسمى بالنضال السلبي ( قبل 1968 ) قد تحركهم للتعامل بمبادئ الثورية.

ولا هم من رجال الانقلاب الذين يسعون لقبض ثمن مساهمتهم به.

بل جيل نشأ في ظل الوضع الجديد، على وفق خطط التكرتة، مُنِحَ فرصة استلام منصب قيادي بزمن يحتاج الوصول إليه في الظروف الاعتيادية عشرات السنين، فرصة يفترض أن يدافع عنها، دفاعا يدعم في المحصلة أمن الحاكم والنظام.  

(5). صياغة وتشكيل سلوك القادة العسكريين الجدد وكذلك الذين يأتون بعدهم على أساس الشك، والتوجس المستمرين الذي يبعدهم عن التفكير بأي احتمالات للتجاوز على القيادة، ويدفعهم ليكونوا عينا مضافة لها في متابعة، ومراقبة معيتهم.  

(6). فرض سلطة الحزب المتمثلة بأمينها العام على العسكر، وخلط مسألة الانضباط الحزبي لتكون متقدمة على الانضباط العسكري الذي يضمن على طول الخط تحركا حزبيا أكثر أمنا من التحرك العسكري الذي لا يأمن جانبه.

ثالثا. لكن صدام حسين الذي أحال على التقاعد ضباط كان البكر يرى في تأجيل إحالتهم  ضرورة آنية لأغراض الخبرة العسكرية، أو لأسباب تتعلق بالحد الأدنى من التوازنات الطائفية التي يمكن الركون إليها عند الحاجة ( وهنا يمكن التنويه إلى أن صدام قد أحال على التقاعد مع بداية استلامه السلطة عام 1979 عديد من الضباط برتب متقدمة، وفي ذات الوقت منح مرة واحدة أكثر من عشرة ضباط قدما عدة سنوات يصل بعضها إلى ثمان سنوات، وقد نسبوا كقادة فرق، وعلى عاتقهم كانت خطة تنفيذ الهجوم على إيران في 2 آب عام 1982). هذا وإنه لم يكتف بهذا الإجراء، بل وذهب كثيرا إلى الأمام في التعامل الخاص مع هدف التدجين إلى المستوى الذي لا يعني التوقف عند عقائدية الجيش كما يراها الحزب، بل وتسيس الجيش ذاتيا، بطريقة يكون هو فيهـا الصورة المثلى للقائد العسكري الأعلى، والمستقبل المشرق للضابط المَرّضـــيٌ عنه في ترقية بلا ضوابط، وإثراء بلا حدود، وأمن مرتبط  بديمومة الرضا والتأييد، وبفعلها لم يفقد الجيش مهنيته العسكرية فقط ، بل وحتى صفته العقائدية التي أرادها  البعثيين الأوائل، وكانت أهم إجراءاته في هذا المجال:

(1) . التوسع في معنى الثمن 

كان الثمن فلسفة أو رؤية وجدت بدايةً في عقل الحزبيين العسكريين، والمدنيين المشتركين في الانقلاب تمخض عنهـا سعي من قبلهم وبطرق شتى للحصول على منصب مهم في الحكومة ثمنا لمشاركتهم في وجودها، وقد سعى  الحزب والحكومة منذ البداية للتقليل من آثاره الجانبية ونجح بدرجة كبيرة، وذلك بإيجاد إجراءات مالية، وإدارية تساوي بين الكوادر العليا للحزب والحكومة، وبمقتضاها أصبح عضو الفرع المتفرغ للعمل الحزبي على سبيل المثال بدرجة مدير عام في المنظمات الشعبية، وله مخصصات ووضع المدير العام، وهكذا أصبح الثمن المقبوض متساويا لا يدفع الكادر الحزبي إلى المقاتلة للحصول على منصب حكومي، ولا يدفع الموظف الحكومي إلى السعي للتفرغ الحزبي، وأبقيت المعادلة بين الجانبين حكرا على الحزب في قيادته العليا.

وهذه رؤية طبقت تماما في المؤسسة العسكرية بشكل واضح نهاية السبعينات من زاوية لا تتعلق بدفع ثمن الانقلاب، بل وعلى العكس من ذلك، أي بدفع ثمن الحيلولة دون حدوث الانقلاب، فكانت البداية قرض من المصرف العقاري بمبلغ خمسة آلاف دينار لعموم الضباط دون فوائد، ثم إعفاء من القرض، ومن بعده سيارات شخصية كل سنتين، وعضوية في نوادي الدرجة الأولى، وزيادات كبيرة في الرواتب والمخصصات، لمستوى أثار عدم رضا كوادر الحزب وأعضاءه المدنيين * وهكذا كان الثمن يدفع باستمرار ليتطور في زمن الحرب إلى مستوى شراء الحياة والذمم، غَيَّرَ في  نهاية الأمر سلوك العسكر باتجاهات سلبية سنتناولها بقدر من التفصيل لاحقا.

(وعلى سبيل التوضيح نذكر سؤال وجهه في اجتماع للكادر المتقدم للحزب عقده صدام في قاعة الخلد ببغداد بعد أشهر من نجاحه في إزاحة البكر عام 1979، طلب فيه وهو عضو فرع توضيحا عن تلك العطاءات، والمكارم التي تهافتت على العسكر، وفيما إذا تكَّون في النهاية طبقة جديدة في المجتمع العراقي يمكن أن تخل بتوازنه، أجابه صدام بإيجاز: إ ن حساباتنا مع العسكر دقيقة، وكل شيء بثمنه).  ‍‍‍‍‍

(2). المغالاة في إجراءات الأمن 

كان الجهاز الأمني لدولة العراق قبل 1968 يتكون من مديرية للأمن تتبع الشرطة العامة، معنية بالأمن الداخلي، ومديرية للاستخبارات العسكرية تتبع دائرة العمليات معنية بجمع المعلومات عن العدو والعدو المحتمل، وعن عمليات مكافحة التجسس، تغيرت طبيعتهما لتتضخم الواحدة منهما بعد ذلك التاريخ إلى أكثر من خمسة عشر ضعفا، ويعاد ارتباطهما ليستقرا سوية بالسكرتير الشخصي للرئيس، كما شكلت:

رئاسة للمخابرات العامة بأهداف التعامل مع جمع المعلومات السوقية، ومكافحة التجسس، ومقاومة المعارضة العراقية.

وجهاز للأمن الخاص لحماية الرئيس، وعائلته والتجسس على الدوائر الأمنية المذكورة، ومراقبة المسئولين الحكوميين والحزبيين.

إرتبطا أيضا بذات الجهة، وخولتها صلاحيات دون حدود، ومولت ميزانياتها بمقادير تفوق ما يخصص لتنمية العراق، كما وجهتها لفتح فروع لها في كافة الدوائر والمؤسسات والسفارات، ونقاط للرصد والمراقبة في نهايات الشوارع والمحال السكنية وفي الجامعات، وتجنيد للوكلاء في الأسواق العامة، والجوامع والكنائس، وزوجات البعض من المسئولين.

وفي الجيش بدلا من أن تكتفي بضابط الاستخبارات والمسئول الحزبي، لأغراض الضغط والمراقبة أضافت ضابط للأمن في كل الوحدات والتشكيلات والقيادات، يمكن أن يكون في وحدات الحرس الجمهوري والخاص مدنيا، أو حتى ضابط  صف بإسم مستعار، له من الصلاحيات ما يفوق مستواها الآمر / القائد الذي يعمل بمعيته من الناحية التنظيمية، لارتباطه بجهاز الأمن الخاص مباشرة. حتى أصبح الأمن هاجسا كبيرا، وتحول في الجيش من:

أمن المواد والمعلومات والأفراد إلى أمن الحاكم شخصيا.

ومن كفيل لإبعاد المواطن عن الخطر إلى مجال لسحب غير المرغوب بهم إلى الموت بشتى وسائل التوريط غير الإنسانية.   

رابعا. لو أتيحت الفرصة للنظر في موضوع التغيير في أمور الجيش العراقي نتلمس أن مرحلة حكم صدام حسين كانت المرحلة الأكثر سعة في مجال التغيير، والأشد تأثيرا في دائرته الواسعة، حتى يمكن عدها مرحلة إعادة ترتيب " تخريب " جديدة بكل المعايير العلمية والعملية.

إذ أنه وبالإضافة إلى مسائل الأمن والتدجين والتكرتة، قد غَيَّرَ النظام المفاهيمي والقيمي للجيش العراقي وذلك بإلغاء بعض القيم والمفاهيم، مثل التكافل، وروح الجماعة، والتضحية ... الخ، وإيجاد أخرى بديلة مثل:

(1). الولاء الشخصي 

كان الولاء لمنتسبي الوحدة العسكرية ضباطا ومراتبا محسوم لتلك الوحدة عن طريق التواصل النفسي بين العسكري وآمره لينتقل أو يكبر هذا الولاء إلى التشكيل ثم الفرقة فالجيش.

وكانت هناك خطط ومفردات تدريب وتثقيف تعزز مستويات هذا الولاء، على أساس شائع بين كل الجيوش أن الآمر بطبيعة وجوده لا يمثل شخصه الذاتي فقط، ولا سلطة الضبط في وحدته فحسب، بل وكذلك الوجود المعنوي للجيش والدولة على حد سواء، وبالتالي يصبح الولاء للآمر والوحدة ولاء للدولة، وبالقدر الذي يزيد من توجهه العسكري للدفاع عنها والقتال من أجلها، وهذا ما ليريده صدام في دولته المنشودة، وبذا تعامل مع الجيش وضباطه، وقادته بوجه الخصوص بطريقة تَقْيِّيم وتوزيع للمسئوليات لم يعد فيها الانتماء العرقي الطائفي معيارا كافيا للولاء المطلق * وإن بقيَّ بحدود ليست قليلة كنقطة بدء لتسنم المناصب القيادية الحساسة في الجيش، إذ أضيف محدد آخر يتمثل بالولاء التام لشخص الحاكم "القائد العام".

(وهنا تجدر الإشارة أن السوامرة مثلا فقدوا مكانتهم في سلم الولاءات الخاصة بالحاكم  مع عام 1979 أو قبله قليلا، وبفقدانها خسروا فرص استلامهم مناصب قيادية عليا في الجيش والأجهزة الأمنية، وقوات النخبة، ومن بعدهم جاء دور عشائر الجبور، ثم الدليم ، وهكذا).

وفي إطار هذا الولاء تمت إعادة تنظيم المؤسسة العسكرية بصورة معقدة، ومتداخلة حيث التدرجية التراتبية للولاء مع حساسية المهام وطبيعتها الأمنية، فبعد أن كان الجيش هو المؤسسة العسكرية الوحيدة في البلاد ورئيس أركانه من طائفة محددة "على الأغلب" يكفي من وجهة نظر الدولة لتحديد طبيعة ولاء أفراده، عمد الحاكم إلى تشكيل تنظيمات أخرى موازية ونخبوية الطابع، نسب لقيادتها ضباط من المنطقة، والعشيرة، والعائلة "تبعا لتدرج هرمها الأمني" تضطلع بمهام عسكرية تختلف عن المهمات التقليدية للجيش، وتتحدد بالدفاع المباشر عن النظام في حال عجز الجيش عن القيام بهذه المهمة أو محاولته إسقاط السلطة، وفي إطارها تمثل قيادات الحرس الجمهوري والحرس الخاص، وجيش النخبة، وأخيرا جيش القدس .... الخ الجدار الأخير الذي يعتمد عليه الحاكم في تثبيت وجوده، كما أن التداخل الوظيفي لعمل هذه المؤسسات والرقابة التي تمارسها على بعضها البعض في خضم توازن الرعب والولاءات، يمثـــل ضمانة أخرى ضد إمكانية تحول هذه المؤسسات، أو بعضها بالاتجاه المعاكس للنظام والحاكم، ويزيد من التصاقها المصيري به.

(2). تضييق شمولية مفهوم الوطن

إقترن مفهوم الوطن في عقل العراقي بحدود العراق الجغرافية "زاخو من الشمال، وحتى الفاو جنوبا" التي رسمت من قبل الإنجليز بداية القرن العشرين، وبقيَّ هذا المفهوم عالقا في الذاكرة العامة على الرغم من اتباع سياسة الكانتونات الطائفية، والعرقية التي تسهم في تضييق مفهومه بحدود معينة بين الحين والآخر.

وبعد عام 1979 بفترة وجيزة تصور الحاكم أن  مفهوم الوطن لأعالي وسط وشمال العراق العربي "طائفيا " لم يعد كافيا للمحافظة على البقاء أعلى هرم السلطة السلطة بعد أن حاول ضباط من داخل بقعته الجغرافية التجاوز عليه رمزا للوطن كما يعتقد في داخله، عندها برزت الحاجة ملحة لإعادة ترتيب تلك الكانتونات عقليا لتتناسب وضيق كانتون الحاكم "صاحب المقاس" عندها بدأت إجراءات حثيثة لتكوين ترتيب عسكري بمحتوياته العرقية، والطائفية، والايديولوجية المعروفة يضيق تدريجيا ليضم تكريت والمناطق القريبة منهــا وطنــــا، ومن ثم العوجة وطنا في العقل الجمعي العام للعراقيين، أو حالة يعني الدفاع عنها دفاعا عن الوطن.

( إذ بذلت الحكومة جهودا حثيثة لإيجاد نوعا من الاقتران الشرطي بين تكريت ثم العوجة والوطن "العراق" باتجاهين:

كان الأول بتسويقهما إعلاميا، ونفسيا لجموع المتلقيين العراقيين كمنبع للخير، ورمزا للعطاء، وأساسا للنضال بينها تسمية صلاح الدين محافظة للمنطقة المعنية وتوزيع أبنائها المؤهلين وغير المؤهلين على مراكز الدولة ذات الصلة بشؤون المواطنين.

وكان الثاني تمييز أهل المنطقة بالوظائف، والهدايا والمكارم والتقدير، والتقرب من سلطات إصدار القرار، وبتوفير مستوى معيشة يفوق مستويات باقي المناطق العراقية، ليتوحد أولئك الأهالي مع الحاكم وعائلته وجودا يمكن التفاني في الدفاع عنه كبديل للوطن).          

وبالمحصلة أصبحت المؤسسة العسكرية وكأن حروبها الخارجية مع إيران والحلفاء في الخليج الثانية، والداخلية مع الأكراد، والشيعة في الجنوب، والعشائر السنية في أعالي الوسط والشمال" مثلث الجزيرة" وطبيعة المهام الأمنية الموكلة إليها قد جاءت دفاعا عن مفهوم خاص للوطن ضيق وانتقائي، يخدم الحاكم فقط، وإن تسبب في تجزئة الوطن فكريا بحدود تمهد لحدوث حروب أهلية عند سنوح الفرصة مستقبلا.

(3). الاحتواء والتطويع  

الجيش منظمة منضبطة يجري تدريبها على تنفيذ الأوامر الصادرة من الآمرين، تسلسلا نحو الأعلى حتى القيادة العامة أو رئاسة الأركان ثم الدولة ممثلة برئيسها، أو مجلس الوزراء التي توظف الجيش لأغراضها السياسية، وهذه مسألة حتمت وجود سياقات عمل، وأساليب تعامل، ومستوى ضبط، وتدرج في الرتب،  وشكل تنظيم تساعد جميعها على تحقيق غاية تنفيذ الأوامر، عماد الجيش والصفة المشتركة لكل الجيوش وعند كل الأمم. وهذه ورغم أهميتها لنظام حكم مثل الحكم البعثي للعراق، لديه الاستعداد الكامل لاستخدام الجيش في أعمال القمع الداخلي، لكنها ومن زوايا أخرى قد تسبب تنفيذا لأوامر أحد المفاصل في سلسلة القيادة الممتدة طويلا، بالاتجاهات التي يمكن أن تغير من النظام أو تُقَومهُ لمصلحة الوطن، عليه أصبح موضوع الانضباط العسكري، ومسألة تنفيذ الأوامر مؤرقة للنظام ومثيرة لتوتره، ووضعته في موقف صراع للتعامل معهما بين اتجاهين متنافرين:

يمثل الأول التقليل من مستوياتهما، وهذا يعني احتمالات التلكؤ بتنفيذ الأوامر في ظروف حرجة قد تتسبب في خسارة كبيرة للنظام بينها التغيير.

ويمثل الثاني اتجاها لتقويتهما كثيرا كما هي حالتهما القياسية في الجيوش، وهذا يعني احتمالات تنفيذ أوامر بعض القادة العسكريين فتكَّون ظروفا حرجة وخسارة للنظام لا تقل إيلاما عن خسارة عدم التنفيذ إن لم تزيد عليها في التعجيل بعملية  التغيير، وبقيت معالم الصراع هذا مؤرقة طيلة حكم البكر، وحتى تبؤ صدام المركز الأول ليجد لها حلا يحتوي فيه الجيش، ويطوع قادته من خلال:

(أولا). اختيار ضباط برتب كبيرة لمناصب القيادة بمواصفات على الأغلب تتسم بالانتهازية، والوصولية، وتوسم سلوكهم خصائص الرعب وعدم الثقة بالنفس، لأن خصائص من هذا النوع تجعلهم يأخذون رأي الأعلى منهم في صغائر الأمور قبل كبائرها، وتثير في داخلهم الشك بما يصدر إليهم من أوامر من الجهات الأعلى، ويحسبون ألف حساب قبل تنفيذها.

(ثانيا). حصر كثيرا من أنواع القرارات، والصلاحيات بالقيادة العامة للقوات المسلحة، إذ وصلت الحال في بعض المراحل الزمنية من حكم صدام أن يؤخذ رأيه مثلا:

بتغيير موقع دفاعي لسرية مشاة على جبهة تمتد 1200 كيلو متر.

تنسيب آمر وحدة.

ويأخذ رأي القيادة بنقل جندي من الجبهة إلى بغداد.

(ثالثا). تجزئة الضبط العسكري، والاستعداد لتنفيذ الأوامر إلى جزأين رئيسين:

(1). الأوامر العسكرية الصرفة، وهي الأوامر التي تقتضي ضرورات عمل الوحدة / القيادة تنفيذها في كافة الظروف والمواقف، مثل تلك التي تتصل بالحرب هجوما ودفاعا، وبالشؤون الإدارية، والتنقـــل .... الخ، وما يتخللهما من أوامر وتوجيهات فرعية. 

وهي واجبة التنفيذ حد تحديد عقوبة الإعدام لعدم تنفيذها خاصة في ظروف الحرب والتوتر التي بدأت بعيد مجيء صدام أي عام 1980 وحتى وقتنا الراهن.

(2). الأوامر العسكرية ذات الصفة السياسية، وهي الأوامر التي تصدر عن الأعلى بهدف القيام بفعل يهدد أمن الحزب والثورة، مثل:

التمرد على الحكومة.

محاولة اغتيال مسئول من الحكومة.

أو التحرك لتغيير الحكومة .... الخ.

وهذه يحرم تنفيذها لمستوى تحديد عقوبة الإعدام ليس فقط للذين ينفذون أوامرها، بل وكذلك لمن لا يُخَبِر عن آمره الذي أصدر مثل تلك الأوامر، وإن لم يجر تنفيذها.  

(رابعا). الإذلال . يُشَكَل سلوك الضباط في الجيوش ومنذ الأيام الأولى لدخولهم طلابا إلى الكليات العسكرية باتجاه الاعتداد بالنفس والثقة بالنفس، ويمتد هذا إلى تقدير الضابط واحترامه آمرا في وحدته أو شخصا في المجتمع بهدف تكوين منزلة قبول للمهنة العسكرية على الرغم من المخاطر الموجودة فيها من جهة، ولحث الضابط على الصمود بالمعركة وعدم التهرب منها أو التخلي عن واجبه وجنوده في الظروف الصعبة من ناحية أخرى، وهذا نوع من السلوك لا ينسجم وطبيعة الجيش العقائدي المطلوب تكوينه، وبدلا عنه توجه صدام أولا إلى سب وشتم أعضاء في القيادة العامة وأحيانا معاقبتهم بالضرب أمام زملائهم لمجرد قيامهم بأعمال يفسرها من جانبه خطأ أو تقصير، وبتكرار هذا الأسلوب، ولغرض التخفيف من وطأة الاعتداء الحاصل على الذات الشخصية بدأ أعضاء القيادة العامة وعلى وفق آلية التقمص النفسية يمارسون نفس السلوك أو قريبا منه مع القيادات الأدنى منهم، وهكذا انتقل إلى قادة الفيالق والفرق والآمرين فأصبح شتم الضابط وإهانته علنا سلوكا شائعا، عندها شعر العسكر بالمهانة والذل التي لا يطمحوا في جوانبها سوى التجنب، وإن كان الثمن ضياع الوحدة والجيش أو حتى الوطن.     

خامسا. إن التغير الذي حصل على وضع الجيش العراقي في مجالات الضبط والمعنويات وسياقات التعامل، وسبل الإدارة والقيادة، والعلاقات والتدريب، وغيرها بعد العام 1979 وضعه "الجيش" أداة طيعة في يد السياسة غير العقلانية، ومعولا تستخدمه متى ارادت للهدم والتخريب، وبالقدر الذي مهد لحصول الأزمة وزاد من تعقيدها وإدامة استمرارها، وهذا بطبيعة الحال يعود بعضه لرؤية صدام الخاصة، وطبيعته في التعامل مع الجيش لغرض تدجينه وإبعاده عن خاصية الانقلابات التي كانت تميزه قبل 1968 وكما ورد أعلاه، ويعود بعضه إلى حربه مع إيران وطبيعته الخاصة في إدارتها، ويعود البعض الآخر إلى غزوه الكويت ونظرته الخاصة في قبول محاربة الحلفاء في حرب الخليج الثانية، ولغرض تسليط أثر تلك الفترتين على وضع الجيش، وعلاقته بالأزمة ستتم مناقشها بعنوانين منفصلين.

 

وضع الجيش العراقي في الحرب مع إيران  

1. بدأت حكومة حزب البعث بالعمل على زيادة تشكيلات الجيش العراقي بشكل مضطرد، إذ ارتفع تعداد منتسبيه من 50 ألف إلى 82 ألفا بعد سنة 968، ووصل 102 ألف في 972، ثم إلى 430 ألف عام 980، وإلى 778 ألف 984، وإلى مليون مع نهاية الحرب عام 1988( 7)، وتزايدَ بتناسب طردي عدد البعثيين فيه من حوالي (100) فرد عام 1968، ليصل إلى ما يقارب 25 ألف عضو مع عدة أضعاف من الأنصار والمؤيدين عام 981، وأضعاف هذا الرقم مع نهاية الحرب أيضا، وهذه زيادة سريعة جاءت على حساب الكثير من مستلزمات البناء العسكري في مجالات الإعداد والتهيئة، والتدريب، والمعنويات، وفي إكساب المنتسبين الصفة العسكرية، لكنها كانت شبه حتمية للتعامل مع متغير الحرب حيث الحاجة إلى مزيد من المشاة لمسك المواضع الدفاعية على امتداد حدود بلغت سعتها بحدود 1200 كم، والمزيد من الأفراد لصنوف أخرى لتأمين قدرة الهجمات المقابلة لاستعادة أراض باتت السيطرة عليها متبادلة بين الطرفين المتحاربين في ساحة المعركة أحيانا، وكذلك المزيد من التعويض لسد النقص في الخسائر التي أخذت تتزايد خاصة بعد سنة 1982، وهذا التورم السريع في حجم الجيش العراقي صاحبته إدارة مدنية، غير مستعدة للالتزام بالمعايير العسكرية، تداخلت مع ظروف الحرب لتكَّون وضعا خاصا للجيش يعبر عن خليط غير متجانس لبعض ضوابط العسكرية، وسياقات التعامل الحزبي، واتجاهات الفعل المليشياتي، إذ أنها تقاتل مثلا، وتقبل الخسائر، وتعيد تنظيم نفسها بضوابط العسكر، وتدار في أعلى قمة هرمه، وتهيأ جوانب تفكيرها، والعلاقات بين أفرادها بلغة الحزب وقيادته المدنية، وتنظم أهدافها وسبل حركتها وطبيعة ارتباطاتها بطريقة المليشيات، وكانت تلك المحصلة نتيجة طبيعية لتعدد الغايات التي أرادت  الحكومة تأمينها من وضع الجيش، وظروف قتاله وشدة تداخلها.

فهي بالوقت الذي أرادت ضرب الثورة الإيرانية وإجهاضها مع بداية الحرب مثلا، عاودت لتبدل غاية القتال بعد سقوط المحمرة في سنة  الحرب الثانية لتكون الدفاع عن الأرض بأقصى جهد ممكن للخروج من مأزق الحرب بأقل الخسائر، وهكذا في السنة الثامنة التي تحددت الغاية فيها بإيقاف إطلاق النار بتعادل سلبي جهد الإمكان.

وفي الوقت الذي تُحَددُ إحدى غاياتها تقوية ودعم الجيش للصمود في الحرب، تضع أخرى ضمنا بعدم تجاوز قوته حدود الإفراط بالثقة التي تهدد الحزب والحكومة، وهي غايات وإن يبدوا تغيرها طبيعيا في بعض جوانبه تبعا للموقف السياسي والعسكري، لكنها أرهقت العسكر عقليا بسبب حاجتهم لتبديل نهج تفكيرهم لاستيعابها، وتغيير سبل تنفيذها بسرعة لا تنسجم في معظم الأحيان وسرعة جريان المعارك الدائرة على الجبهة.

وعموما فإن مثل هذه العوامل لا يبدو تأثيرها كبيرا على محصلة وضع الجيش العراقي دون تفاعلها مع عوامل أخرى أثرت كثيرا على وجوده المهني ودوره في الحياة العراقية، وسببت تخريبا في بنيته لم يشهده تاريخ العراق وجيشه على حد سواء بينها: 

أ. القيادة والسيطرة  

يعتمد الجيش في نجاح خططه وأداء منتسبيه لتنفيذ تلك الخطط على عدة أمور بينها قيادة تتمتع بقدر من الكفاءة والذكاء لإعداد تلك الخطط تبعا لتطورات الموقف العسكري، وبالمرونة والدراية وإمكانية التأثير على المعية لزيادة دافعيتهم في تنفيذها، وعلى هذا الأساس عُدَّت القيادة من بين المبادئ الأساسية لكسب الحرب وترجيح التفوق، وهذه أي القيادة لو ألقينا على واقعها في الجيش العراقي نظرة بحث دقيقة نجد أنها وفي خلال الحرب مع إيران تميزت بخصائص أثرت سلبا بتطوراتها على الوضع العام للجيش العراقي منها:

أولا . شبابية القيادة  

كانت القيادة العسكرية في الجيش ومنذ الأيام الأولى للحرب تهيمن عليها صفة الشبابية، إذ أن صدام وبسبب عمره الصغير نسبيا مع بدايتها، وعدم خبرته العسكرية، ورغبته في إزاحة الضباط القادة المخضرمين، اتخذ قرار الإحالة على التقاعد لأعداد كبيرة منهم في أوقات متقاربة، خاصة أولئك الذين عاصروا عسكرية الملك وعبد الكريم قاسم، مع قبول استثناءات محدودة جدا لأسباب مهنية وشخصية مثل الفريق الأول الركن عبد الجبار شنشل المعروف بكفاءته العسكرية الجيدة وشخصيته الموالية جدا، والتي استخدمها صدام بدقة لتعبير الكثير من الخطط تحت بند المهنية العسكرية، وهو إجراء اتخذ لتأمين في الغالب:

(1). تجنب عدم التنفيذ الدقيق أو التلكؤ بتنفيذ خطط تأتي من المراجع العليا " القيادة العامة للقوات المسلحة" الممثلة بشخص القائد العام ، يجري فرضها" أي طلب تنفيذها" في كثير من الأحيان وكأنها قرارات حزبية.

(2). إبعاد احتمالات استغلال ظروف الحرب في التآمر وقلب نظام الحكم من ضباط يصنفون خارج المنظومة السياسية للحكومة.    

(3). فسح المجال لأجيال الشباب من قادة يأتون من مدرسة الحزب، ويعينون بمباركة العائلة والحزب، وبمراسيم جمهورية خاصة يصدرها قائد الدولة والحزب، وبالتالي فهم مؤهلين من وجهة نظر الحكومة للتنفيذ والإخلاص أكثر من الأجيال التي سبقتهم.    

وتلك كانت "الشبابية" صفة، بالإضافة إلى وجهة نظر صدام بضرورة تعميمها فأن استمرار القتال وكثرة الخسائر في الضباط وخاصة القادة والتوسع في تشكيل وحدات وقيادات جديدة، جعل الفوج والكتيبة على سبيل المثال تدار من قبل ضابط برتبة نقيب، والتشكيل من ضابط برتبة مقدم، حصل على قدم عسكري أكثر من أربعة سنوات، وتسبب في أن تقاد الفرقة من عميد حاصل على تكريم رتبتين في معركتين متتاليتين، وهكذا باتت غالبية المناصب تُشغل من ضباط تقل أعمارهم عن مستويات العمر / الرتبة التي يفترض وجودها في القياسات الاعتيادية للجيش العراقي، والأعمار المبكرة والشابة وعلى الرغم من اتصافها بالاندفاع وبذل الجهد لتحقيق النجاح لكنها وفي ضل إدارة الجيش آنذاك جعلتها موسومة بخواص أخرى تؤثر سلبا على مجريات الحرب، وعلى وضع الجيش بشكل عام.     

ثانيا. نقص الخبرة  

إن عامل العمر بالنسبة للجيش العراقي وفي ظروف القتال، وتسارع الأحداث، وشدة الخسـائر التي لم تسمح بتأهيل الضباط لمناصب القيادة كما يجب، جعلت خبرة الضباط في المناصب القيادية تتناقص تدريجيا، لتكون في نهاية الأمر مقتصرة على التعامل الميداني الآلي مع أحداث الحرب بشكلها الضيق، وعلى أساليب تعامل مع الأعلى تتأسس على كيفية عدم التقاطع معه، وعلى وسائلٍ لصيانة الأمن الذاتي تعتمد التكتم، والابتعاد عن الخطوط الحمراء التي تمس الحاكم ونظامه.

( يضاف إلى ذلك أن مدة التدريب والدراسة في الكلية العسكرية قد تقلصت  لأغلب سنوات الحرب، وأُنشأت الكلية العسكرية الثانية لتخريج ضباط من أصول حزبية ومن العائلة الحاكمة والعشيرة، ومن ضباط الصف المطلوب منحهم رتب ضباط، وبأوقات لا يجد فيها المتخرج فسحة يتعلم فيها أصول الضبط والتحية العسكرية، وكذلك الحال بالنسبة إلى كلية الأركان، وتوقفت الدورات التأهيلية في السنتين الأولى من الحرب على وجه الخصوص، وكُلفت مدارس قتال الفرق التي شكلت خلال الحرب بديلا عن مدارس الصنوف، وبإمكانيات ميدانية ضعيفة لتأهيل الضباط وضباط الصف والجنود ميدانيا، وأوقف إيفاد الضباط بدورات عسكرية خارجية  إلا للأغراض الأمنية، والتبادل السريع للخبرات).

ثالثا. سرعة الانفعال  

كما إن تلك الخاصيتين سحبت الضباط بالإضافة إلى أسلوب التعامل القسري الانفعالي للقيادة الأعلى إلى أن يكون الآمر / القائد انفعاليا، أو بالمعنى الأدق سريع الانفعال والغضب، وقليل المرونة والحكمة التي تتطلبها أصول القيادة العسكرية الصحيحة، حتى بات الضباط يرون عديد من المواقف، يتحول فيها قائد الفرقة أو الفيلق من مناقش لتقدير موقف دفاعي في ظروف صعبة إلى محاضر في تعليم الأخلاق أو إلى جزار يأمر بالموت دون رحمة، وهذه تسببت ليس بتشويه صورة الآمر / القائد في عقول المنتسبين فقط، بل وعززت في سلوكهم المقت، ومحاولة الابتعاد عن طريقه، وإن كان الثمن تقصير يؤثر على الموقف العسكري.

( إذ شهدت الحرب كثيرا من الأوامر الصادرة من الحاكم والقيادة العامة للدفاع عن موقع دفاعي أو الهجوم لاستعادة  تلة مشرفة تَحَكَمَ فيها الإيرانيون جيدا، ويتفوقون في قياسات الدفاع عنها بعدة مرات عن القطعات العراقية التي أُمِرت بالهجوم، كما إن الخطة التي طلب الحاكم تنفيذها لا تتناسب وطبيعة الأرض وظروف المعركة على سبيل المثال "كما هو الحال في معركة الفاو الأولى" وعندما يكون من المستحيل تحقيق أي نجاح فيها، يُحَمِل الحاكم مسؤولية الفشل على المنفذين، وقد لا يكتفِ بالتنويه عن فشلهم أو لومهم، بل واختيار البعض منهم قرابين لهذا الفشل يُحَمِلهم مسئوليته ويتخلص من البعض منهم لشكوك سابقة ومعلومات تجمعت في أضابيرهم أو لانتماءاتهم الطائفية والعشائرية غير المرغوبة، وربما لإقناع نفسه لا شعوريا أن خططه عظيمة، وإن الفشل عيوب في التنفيذ دفع ثمنه المعنيون، وإن عبقريته ما زالت ترفد العراق والجيش بمآثرها العظيمة).

رابعا. عدم تحمل المسئولية  

أدار صدام الجيش في مجال المسؤولية بطريقة تُحَمَلُ في مجالها تبعات الخطأ لأي عمل ما لِمَن يقوم به، أو يقترحه، ويجني هو ثمار النجاح عبقرية لا حدود لها، وقدرة خارقة، وهكذا امتدت هذه الطريقة لتشمل الأوامر الصادرة منـــه شخصيا، إذ يعني نجاحها:

صحة هذه الأوامر وصواب معناها.

عظمة وقدرة مصدرها.

والعكس أي في حالة الفشل فإن المنفذين لم يكونوا بالمستوى المطلوب أو أنهم معاديين أو مشكوك بهم.

وهكذا تقمص بعض القادة العسكريون هذه الخاصية غير السوية لتنتقل مع طبيعة العقاب الشديد لفعل الخطأ الذي تقدر مستوياته من الأعلى باستمرار.

وبالتكرار أصبح القائد الميداني أو كثير من القادة الميدانيون ذو سلوك تطابق طبيعته سلوك القائد العام، وأصبح داعية لكل الأعمال الناجحة في قاطعه، وجزارا لمن يعتقد أو يُقَدر أنه سبب في فشلها.

وأصبح آمر التشكيل والفوج وحتى آمر الفصيل كذلك لأنهم يعون جيدا أن تسجيل النقاط المَرْضِيٌّ عنها في أضابير موجودة في كل المفاصل القيادية للجيش تفتح الباب أمام الترقية رتب كاملة، والحصول على السيارات أنواع متعددة، وعلى الترشيح لاستلام مناصب أعلى خارج القياسات الاعتيادية.

والأهم منهم جميعا تجنب غضب القائد الذي يعني الموت أبسط أشكاله، أما الفشل وإن كان غير مقصود فيفتح الباب بالاتجاه الآخر:

موت غير مشرف في أرض المعركة لمن يفترض أن ولاءه لم يكن محسوما.

وتنزيل للرتبة العسكرية، والمنصب لمن يفترض أنه قادر وقَصَرَ في عطاءه.

وسحب للرتبة العسكرية لمن أريد أن يكون وضعه رسالة للآخرين في فيلقه.

وهكذا كثرت الحالات، وتعددت أشكال العقاب، وأنواع التكريم.

ولأن الإنسان بطبيعته ميال إلى تجنب الألم فأصبح الآمرين / القادة وبمرور الوقت غير راغبين بتحمل أية مسؤولية، وإن كانت ضمن صلاحياتهم، وهذه خاصية في القيادة أدركها الحاكم والقيادة العامة بعد أن أصبحت عائقا لتنفيذ العديد من المهام العسكرية، وحاولوا أكثر من مرة وضع علاج لها وذلك بالتعميم على القادة بضرورة تحمل المسؤولية، وحددوا لهم أكثر من مرة الصلاحيات المخولون بها / لكنه "أي الحاكم" وفي كل مرة يخطأ أحد من قادته خطئا وإن كان في حدود صلاحياته، يُدَفِعهُ ثمنا باهضا يعيده وأقرانه إلى نقطة الصفر في مجال عدم تحمل المسؤولية.

2. التخلخل القيمي إبان فترة الحرب

يدار الجيش ويوجه من خلال القوانين، والضوابط، والتعليمات المكتوبة، وكذلك من خلال المعايير والقيم  العسكرية غير المكتوبة، منها التي تُنتَجُ من حصيلة التدريب، ومن نتيجة التعامل، وامتداد العمل العسكري، مثلا:

روح الجماعة.

الالتزام والشرف العسكري.

التكافل والتواد.

الإخلاص، وغيرها العديد من القيم جرى الجيش على الالتزام بها، والتعامل معها عبر الأجيال لتكون في محصلة الأمر سلوكا مهنيا للعسكر، وهذه كانت موجودة بشكل مقبول عند العسكر العراقي حتى بداية حكم البعثيين لتبدأ بالتغير الذي تسارع بشدة كبيرة في الحرب العراقية الإيرانية بسبب ضوابط، ومعايير، وتعليمات فرضت على الجيش من قيادته السياسية "المدنية" لتنتج وضعا حَرفَ الجيش عن مساره الوطني، والتزامه المهني، والأخلاقي منها على سبيل المثال:

أ . التطرف في فرض العقاب

هناك في قانون العقوبات العسكري مواد، وفقرات شملت معظم السلوك العسكري المخالف، وحددت نوع العقوبة الملائمة لإطفائه، أي لتصحيح السلوك الخطأ عند العسكري في حالة حدوثه من ناحية، وللحيلولة دون حدوثه على أساس الردع النفسي من ناحية أخرى.

كما حددت التعليمات طبيعة وشكل فرض العقوبة، وصلاحيات سلطة الضبط، وهذه مسائل تُدَرس للضباط الذين يمثلون تلك السلطة، وبعض منها لضباط الصف والجنود المعنيين في بعض جوانبها بقصد مساعدتهم على تفهم تبعاتها وبالتالي تجاوزها جهد الإمكان.

لكنها "أي العقوبة" في قيادة صدام للجيش العراقي، والقوات المسلحة لم تفهم على أساس التشكيل الصحيح للسلوك المهني للعسكر، بل والسعي لتكوين السلوك الآلي للعسكر، أي أن يعمل العسكريون بدوافع واستجابات غريزية، لا عــقلانية، وكانت العقوبة بأعلى مستوياتها هي الأداة التي تشكل هذا النوع من السلوك، لذا أصبح الإعدام مثلا عقوبة تمتد من التقصير غير المتعمد لتنفيذ الأوامر إلى الغياب والهروب، ,انتقاد القائد .....إلخ ، وساعده على ذلك ضباط قادة عرفوا بتطرفهم في تطبيق العقوبة.

( كان الفريق الركن طه الشكرجي من أوائل من بدء بتوزيغ عقوبة الإعدام على الضباط والجنود دون تمييز، لمجرد الشك بالتقصير، وهو أول من أوجد صيغة التنفيذ الفوري لعقوبة الإعدام ميدانيا، ودون محاكمة بعد إعادته إلى المؤسسة العسكرية، وتكليفه بقيادة الفيلق الثاني بعد الانتكاسات التي حصلت في الميدان بعد عام 1982، علما أنه معروف باستخدامه السيئ للسلاح ضد الأكراد، وقتله الجماعي لنسائهم وشيوخهم وأطفالهم عندما كان آمر فوج إبان حركات الجيش في الشمال منتصف ستينات القرن الماضي.

وكان الفريق الركن ماهر عبد الرشيد كثيرا ما يوجه نقدا جارحا، وشتما مباشرا لقادة فرقه، وضباط ركنه عندما كان قائد فيلق،  أثناء تناول الطعام مجتمعا، وخلال مناقشة الموقف وتوزيع المهام العسكرية، وبذا عده الضباط أول من أوجد هذا السلوك السلبي في الجيش العراقي بعد صدام حسين، وهو سلوك بات شائعا في التعامل بين الأعلى والأدنى في بعض مفاصل القيادة العسكرية العراقية وبمستويات ملموسة، وأستمر معها أسلوبا مميزا عندما يتأزم الموقف على وجه الخصوص).  

إن عقوبة الإعدام التي شاع الحكم بها في تلك الفترة لم تبق مسافة معقولة بين مستويات المخالفة تتيح بتغيير السلوك، هذا من جانب ومن جانب آخر، فان الإعدام عقوبة خولت صلاحيات الحكم بها للآمرين والقادة في حالات عديدة دون محاكمة، وبات التنفيذ بالمجني عليهم في الحرب ميدانيا، وأمام الزملاء والآخرين، وكان ذلك ليس بقصد الردع في عمليات تشكيل السلوك المهني العسكري الذي لم تفهمه القيادة، أي بمعاقبة الفعل بقصد إطفائه أو تغييره، بل وللتخلص من مسبب الفعل خشية تعميمه على الآخرين واستشراء المخالفة التي تهدد الأمن. كما إن العقوبات التي باتت تفرض على الأشخاص دون الفعل أخذت تمتد إلى مجرد النوايا، وبات التفسير الآني للنوايا من قبل الأشخاص المواجهين ليس منطقيا، وهناك في هذا المجال كثير من الشواهد في مجالها نرى مثلا:

عند إخفاق آمر لواء من أهالي الناصرية في الدفاع عن مواضع لواءه تجاه هجوم معادي، يُفسر قائد فرقته والفيلق، وأعضاء القيادة العامة التي لم يكن من بينهم واحدا من أهل الجنوب .. أن الإخفاق تقصير ربما يكون متعمدا بسبب الأصول الطائفية لآمر اللواء وهذا شك في النوايا يُسَهل جدا إصدار عقوبة الإعدام بحقه، في الوقت الذي يفسر إخفاق آمر اللواء الآخر من أهالي تكريت، وفي ذات الظروف بتفوق العدو بنسب كبيرة، ويجنبه العقاب وإن كان قليلا من العتب.

هذا وإن التنفيذ الميداني الانتقائي لعقوبة الإعدام الذي عزز طائفية القيادة العسكرية ضمنيا جعل شريحة واسعة من الضباط يعيشون في حالة قلق وتوتر مستمرين، استنزفت جزءا كبيرا من طاقتهم النفسية، ودفعت البعض منهم إلى التنحي عن الطموحات الشرعية لتولي المناصب القيادية أو حتى الانتحار المشرف في المعركة.

( إذ وعلى وفق نظرية الشك والتفسير على أساس النوايا كان الفريق الركن هشام صباح الفخري وبعض أعضاء القيادة العامة يشرفون على معركة استطاع فيها الإيرانيون عام 1984 خرق الدفاعات العراقية من جهة العزير، والوصول إلى الطريق العام بصرة / عمارة، وقد جمعوا أولئك القادة وحدات وتشكيلات للتعامل مع الموقف بينها لواء يقوده العميد الركن قوات خاصة عباس مزعل، وعندما تكبد اللواء خسائر زادت عن 80% وتوقف عن إدامة زخم الهجوم بعثوا على العميد واتهموه بالتخاذل، وقبل أن يتم المعنيين سيناريو اتهامه على أساس النوايا كونه من أهالي بابل، قطع عليهم الطريق بشجاعته المعروفة، قائلا أني سوف أثبت لكم عكس ما تعتقدون وتقدم باتجاه الإيرانيين على مرأى منهم منفردا فتلقى صلية من مشاتهم أنهت حياته عضويا، وأبقت صورته ضابطا شجاعا، مهنيا كفء ، لم يفكر بالتقصير على أساس انتماءاته الطائفية ، ولم يكن خوفه من الموت سببا لذلك الإخفاق).                   

وهكذا أصبحت مثل تلك الحوادث وأسلوب التعامل معها معايير، وقيم تحكم السلوك العام لقيادة الجيش العراقي آنذاك، فتكونت بسببها وضوابط أخرى وضعا للجيش قوامه التوتر والقلق.

ب. الإسراف في توزيع الثواب

عند تناول مسألة العقاب وتأثيرات استخدامه على التخريب الفكري، والمعنوي في الجيش العراقي لمرحلة حكم صدام وإبان الحرب العراقية الإيرانية على وجه الخصوص يتبادر إلى الذهن موضوع الثواب الذي لا تقل آثار استخدامه سلبا في مجال التخريب عن العقاب المذكور بعد أن تجاوزت القيادة العسكرية المعنية في استخدامهما حدود العتبة الفارقة لضبط السلوك، وتمادت كثيرا في الموازنة باستخدامهما لصالح كفة العقاب، وكذلك لصالح الجهل في الاستفادة من أسسهما التربوية لتقويم، وتوجيه  السلوك، وبالنسبة للثواب كانت تجاوزات القيادة قد جاءت من خلال الجوانب الآتية:

أولا. إن القيادة العامة "صدام" وبعجالتها المعهودة لم تحدد ضوابط معينة للإثابة أو التكريم كما أسمته من جانبها، وأبقت مجاله مفتوحا لاجتهاداتها والآمرين / القادة في ظروف غير طبيعية، وفي ظل خصائص شخصية انفعالية، وبدلا من اعتماد ضوابط وأسس مرجعية لنوع التكريم، والفعل المطلوب تكريمه، ووقت التكريم، تركت كثيرا من نهاياته سائبة للتصور الشخصي والتقدير الآني، حتى كُرم ضباط لشجاعتهم في معارك، وهم خلالها يتمتعون في إجازاتهم الدورية أو يرقـدون جرحى في مستشفيات المقر العام.

وكرِم ضباط بمنحهم رتبة عسكرية على أدائهم في معركة، وكرم زملاء لهم بنوط شجاعة في ذات المعركة لأداء تفوق جودتهن ونسبة المجازفة فيه أولئك الذين حصلوا على الرتبة العسكرية.

وكرم ضباط من أهالي أعلى وسط وشمال العراق العربي "مثلث الجزيرة" بالقدم الممتاز لعدة سنوات تكررت في عدة معارك، وكرم أقرانهم من أهالي الجنوب بالشكر والتقدير أو بنوط شجاعة.

وكرم جنود مراسلين وأفراد حماية قادة فيالق بمنحهم رتبة ضابط، وهم لم يخرجوا من بيوتهم أو مزرعة القائد.

( كما حصل في معارك الفاو الأولى بعد أن أحتل الايرانيون عقد تربط تقاطعات الطرق في المملحة، والأراضي المغمورة خارج القصبة، حيث حاولت قطعات من الفيلق السابع، وقوات الحرس الجمهوري إعادة احتلالها، وقد فشلت هجماتها المقابلة عدة مرات، الأمر الذي دفع القائد العام إلى تخويل قائدي الفيلقين بمنح رتبة ضابط لأي جندي أو ضابط صف يصل إحدى العقد، ودارت معارك تكبد فيها الفيلق السابع خسائر جسيمة، وكذلك الإيرانيون دون أن يحقق أهدافه، وبعدها بفترة وجيزة قابل الفريق الركن ماهر عبد الرشيد قائد الفيلق في مقره صحفيين كويتيين محملين بالهدايا، وفي خضم استعراضه لأعمال الفيلق، أشار بعصاه إلى أحد الضباط الملازميين يقف في باب بهو الضباط مؤكدا أنه كان مراسلا عنده وقد منحه الرتبة تقديرا لشجاعته في معارك الفاو).       

كانت هناك حالات منح تكريم مفرط للبعض، وآلاف غيرهم ينزفون دما على الحافات الأمامية لم يتذكرهم ذلك القائد بكلمة ثناء تخفف معاناتهم. وهكذا أصبح التكريم عامل تخريب للسلوك أكثر منه دافعا لتحسينه.

ثانيا. تأكيد مادية الإثابة . حيث حولت القيادة معالم التكريم إلى درجات من الكسب المادي، يحصل فيه صاحب نوط الشجاعة مثلا على منحة مالية قدرها خمسة آلاف دينار، ويكسب صاحب الأنواط الثلاثة لقب صديق الرئيس ليحصل بموجبه على سيارة، وقطع أرض سكنية، وقبول غير مشروط لأبنائه في المدارس والكليات، وإلى مخصصات شهرية على راتبه، ومنح في الأعياد والمناسبات الرسمية، تتضاعف مقاديرها مع سيف القادسية وغيرها، حتى أصبح عديد من العسكر وتحت ضغط العوز والظروف الصعبة يقاتل ليس دفاعا عن الوطن كما هو معهود أو سعيا لتحسين السمعة المهنية كما هو معروف، ولا عن أهداف وحدته التعبوية كما يحصل في بعض الأحيان، بل وعلى العائد المادي الذي يمكن جنيه من أداء ما، وأيا كان شكله ونسبة المخاطرة فيه، وهذا أمر تجاوزت تأثيراته الجانبية مسألة المهنية العسكرية لتعزز بعض أنواع السلوك الخطأ عند البعض من الضباط، إذ أصبح قسم منهم يختلق مواقفا وهمية يذكرها في التقارير المرفوعة للجهات العليا منها مثلا:

(1). يجوب آمر فصيل المشاة الأرض الحرام وهو لم يدخلها أبدا.

(2). يتسلل آمر سرية قوات خاصة خلف خطوط العدو، وهو جالس في مكانه.

(3). يدمر ضابط المدفعية كل أسلحة العدو وقذائف مدفعيته، واطلاقاته في واقع الأمر لم تسكت واحدة من تلك الأهداف.

(4). يزيد قائد فيلق من عدد الخسائر المذكورة في المواقف التي ترسل إليه لينثر جثث عدوه أعدادا لا تحصى في أرض المعركة، وقطعاته لم تكلف خصمها من الخسائر أعدادا تتجاوز أصابع اليد.

( حصل مرة عندما كان ل . ر طالع الدوري قائدا لفرقة المشاة التاسعة في معارك الخفاجية بداية الحرب، وبينما كان جالس في غرفة الحركات عرض عليه رئيس أركان الفرقة أحد مواقف ألويته التي صدت هجوما إيرانيا فجر ذلك اليوم ، يذكر فيه أن خسائر العدو في جبهته مئات القتلى، فعلق عليها كيف وإن الخسائر كما يعلم كثيرة جدا، وبعد سكوت دام أقل من دقيقة طلب تثبيتها في الموقف المرسل إلى الفيلق (آلاف القتلى)، وكان البيان العسكري في مساء نفس اليوم يشيد بأبطال الفرقة التاسعة، وقائدها اللذين كبدوا العدو آلاف القتلى، وعديد من الأسرى.      

وهناك امثلة كثيرة لمبالغات، وأوهام حصلت أصلا لأغراض الكسب المادي، ولضمان رضا القائد "الحاكم" أو تفادي غضبه.

ثالثا. ارتباط الإثابة برضا الحاكم . تجري الإثابة " التكريم " في مستويات القيادة دون الفيلق بموافقة  الآمرين / القادة، أما على مستوى قادة الفيالق وأعضاء القيادة العامة وأحيانا قادة الفرق في بعض المواقف فتكون عادة بأمر من القائد العام، عليه أصبحت تعكس مديات رضاه عن أولئك القادة، ورضاه هذا يتعمم على رضى الآخرين، وأساليب تعاملهم تملقا وتقربا لمن كان مرضيا عليه، وإهمالا لمن أهمل من قبل الحاكم، وهكذا أصبحت طريقة توزيع التكريم عقابا وإهانة في بعض الأحيان لمن يريد القائد الحط من قدره.

(في معارك الفاو الثانية كانت خطة الهجوم تقتضي التقدم على المدينة برتلين أساسيين يقود الرتل الجنوبي " المحاذي إلى شط العرب الفريق الركن ماهر عبد الرشيد قائد الفيلق السابع، ويقود الآخر الساحلي "أم قصر الفاو" الفريق الركن أياد فتيح الراوي قائد قوات الحرس الجمهوري، وتم تنفيذ الخطة بنجاح وبوقت قياسي، وفي حفل التكريم وتوزيع الأنواط، منح أياد فتيح 27 نوط شجاعة، وأعطي ماهر عبد الرشيد نوطا واحدا، فكانت صفعة وجهها صدام إلى الأخير الذي  يحاول أن يضفي على شخصيته هالة كبيرة، ويطمح إلى مناصب أعلى، وكانت النهاية الحتمية التي دفعته إلى الانعزال في الصحراء مع إبله، وأغنامه التي تكونت كثروة كبيرة عبر خدمته في الحرب.

3. العامل المعنوي في الحرب 

المعنويات حالة نفسية تعبر عن الرضا، والارتياح تساعد المعنيين على الاندفاع، وتزيد من القدرة على التحمل، وهي حالة لا تتعلق بطبيعة المعارك فقط، بل بوضع المقاتل الذي لا يتمتع في أيامنا هذه بنفس الفاعلية، والحماسة المباشرة اللتين كان يتمتع بهما في العهود الماضية، لأنه لم يعد فعالا ومحميا بقوته الجسمية وتفوق مهاراته في استخدام السلاح، في معركة اليوم بأسلحتها الآلية والإلكترونية المتقدمة، والبعيدة المدى التي تبدو وكأنها كفاح ضد الموت، بعد أن كانت في الماضي صراعا ضد الرجال، وإن القوة والمهارة فيها لا تحميان الفرد شخصيا، بل أضحيا من بين عدة عوامل تتفاعل جميعها دوافع تجعله مندمجا مع الأغلبية التي يستمد ثقته ومعنوياته منها، وتساعد تلك العوامل مجتمعة وإلى حد كبير في التحكم بانفعالاته ومواجهة ضغوط المعركة ومخاوفها ( 8)، وهذه محصلة يمكن تعميمها على الجيش العراقي في الحرب مع إيران التي تضافرت عديد من العوامل لتحديد معنويات منتسبيه التي كانت تتأرجح دوما بين الجيدة أحيانا والهابطة تماما أحيانا أخرى، وبغض النظر عن جوانب التقييم الآني للمعنويات والعوامل المؤثرة في رفعها، وخفضها مسائل لا تدخل في صلب موضوعنا هذا لكننا وفي جوانب خطى التخريب القيمي يمكننا القول أن العامل المعنوي الذي كان متذبذبا كما أشير إليه آنفا، هو آني وتأثيره على الأداء آني أيضا، أي أن جندي يعاني ضعفا في المعنويات في موقف محدد يمكن أن يعينه آمره بكلمة تشجيع أو إثابة ما أو وعد معين يجد نفسه بعدها وقد تحسن مزاجه وتغيرت مشاعره من الضجر والبؤس، إلى النشوة والارتياح، التي يندفع بموجبهما لتنفيذ الواجب، لكننا هنا نحاول تجاوز هذه الحالة المؤقتة بالتركيز على وضع الجيش، وبينه القدرة على التحمل والميل إلى الاندفاع، ومقدار الأمل وغيرها من العوامل التي تحدد وضعه النفسي العام الذي تكون المعنويات أحد عناصره، وهذا الوضع لكي يتبين لنا بشكل واضح لا بد وأن نشير إلى بعض الظواهر السلبية في الجيش العراقي التي يمكن أن تحدد وضعه ومقدار التخريب بين جوانبه منها مثلا:

أ. التسرب 

بدأت كلمة التسرب تعمم على العسكري أو مجموعة العسكريين الذين يتركون مواضعهم أثناء الدفاع ضد هجمات الخصم بدون أمر تخلصا من بعض الضغوط التي تفرضها ظروف المعركة، وهو مفهوم شاع استخدامه في الجيش العراقي بعد السنة الأولى من الحرب عندما تكررت حالات ترك البعض لمواضعهم أو عدم استمرارهم بالتقدم باتجاه أهدافهم خلال عملية الهجوم، فكانت تكرارات شكلت ظاهرة بدأت واضحة في معارك الشوش عام 1982 وفي المحمرة نفس العام، بعد أن تبين أن قسما من المراتب يتركون وحداتهم وهي في المعركة الدفاعية أو الهجومية ليتسربوا إلى الوحدات المجاورة أو المدن والقرى القريبة، ليلتحقوا بعد انتهائها مستغلين عدم إمكانية متابعة الموجود، والنشر والغياب خلال الالتحام بالمعركة، وكانت تلك ظاهرة قد استشرت بشكل واضح في عموم الوحدات العسكرية خاصة صنف المشاة الذي تَحَمل منتسبيه ضغوط المعركة بدرجات تفوق كثيرا الصنوف الأخرى بالإضافة إلى أن تسربهم، وتسللهم سهل بالمقارنة مع الآخرين الذين يرتبط وجودهم بمدافعهم، ودباباتهم وغيرها أسلحة ثقيلة، رغم صعوبة استثناء أحد من الصنوف من حدوثها بشكل مطلق، وعموما فإن استشراء هذه الظاهرة دفع القيادة إلى التعامل معها بنفس طرقها التي تتأسس على التعامل مع النتائج دون الأسباب، وعلى هذا الأساس أمرت في المراحل الأولى كافة الآمرين للقضاء على المتسربين ميدانيا أي إعدامهم، وعندما لم يوقف الإعدام توسع الظاهرة أمرت بتشكيل لجان من الرفاق الحزبيين، والانضباط العسكري، والاستخبارات تتواجد في أماكن متعددة خلف القطعات التي تخوض المعركة لِتُعدِم كل من تراه عائدا إلى الخلف، أو ماكثا في مكان ما بعيدا عن وحدته، ورغم الضحايا الكثيرة التي أعدمت وهم ملتحقين من إجازاتهم أو هاربين من الأسر أو تائهين عن أهدافهم، فإنها أيضا لم تحد من امتداد الظاهرة، الأمر الذي دفع القيادة إلى إصدار أوامرها بتشكيل سرايا خاصة لمعالجة وضع المتسربين بمستوى الفيالق، وبإشراف الفروع الحزبية العسكرية، فكانت لجان وسرايا يخشاها المراتب، وحتى الضباط أحيانا أكثر من خشيتهم الطرف الذي يقاتلون، حتى فَضَّلَ بعضهم التوجه إلى الأمام وقبول حالة الأسر، فكانت:

سبب لزيادة عدد الأسرى العراقيين لدى إيران، وسبب في تكوين حسرة أو ضيق وعدم أرتياح يعيشه العسكريون طيلة المعركة التي يشعرون فيها أنهم محصورين بين نارين كلاهما حامية لا ترحم.

ودافع لتعزيز وجهات نظرهم بعجز القادة، وجهل القيادة التي لم تحاول حل جذور التسرب وأسبابه العديدة والمتشعبة، فلجأت بعجزها إلى أقصر الطرق التي قللت من حجم، وعد مرات حدوث الظاهرة خلال النصف الثاني من فترة الحرب لكنها أرهقت الوضع النفسي لعموم منتسبي الجيش العراقي وأبعدتهم عن معايير التعامل الإنساني بشكل واضح وملموس.

ب. الإخلاء والتعويض 

يشعر المقاتل في المعركة نوعا من الأمان يدعم وضعه المعنوي والنفسي عندما يتأكد أن منظومة الإخلاء في وحدته فاعلة، واحتمالات إنقاذه عند الإصابة عالية المستوى، وهذه في الجيش العراقي كانت تشكل مشكلة تؤرق المنتسبين، إذ أن القيادة ورغم تأمينها مستشفيات ميدان آلية متحركة على مستوى عال من الكفاءة والمهنية، وسعي طبابتها إلى دعم وحدات الميدان الطبية بالجراحيين الجيدين طيلة فترة الحرب، لكن الجهد الذي خصصته تلك القيادة لتجاوز هذه المشكلة يقل كثيرا عن ما خصص لأمور القتال، وحشد النيران، وهذا يأتي لجهلها بالأمور النفسية والمعنوية، ووقوعها في مطب استخدام الإيرانيين لتعبية الكثافة البشرية في قتالهم، الأمر الذي دفعها إلى تركيز الجهد البشري لزيادة عدد المقاتلين، وتركيز الجهد الفني لزيادة كم النيران، وهذه رؤية خاطئة في الحروب الحديثة التي تتطلب موازنة دقيقة بين:

جندي البندقيات أو الرامي في الدبابة.

وبين الخدمات التي تقدم لدعمه.

حتى قيل أن جندي مقاتل في الحافات الأمامية يخدمه عشرات الآخرين، بينهم المكلفين بإخلائه عند الضرورة، وهذه الموازنة المتعثرة في الجيش العراقي آنذاك:

خسر فيها عديد من العسكريين في الجبهة فرص إنقاذهم جرحى بقوا ينزفون ساعات حتى لفظوا أنفاسهم قبل أن تأتيهم سيارة الإسعاف.

وخسر فيها كثير من العسكريين في أرض الحرام فرص إنقاذهم مصابين، لم يعد أحد يعلم مصيرهم بعد أن تركوا لعدم وجود نقالات أو خطط إخلاء أو رغبة عند الآمرين بتحمل مسؤولية إخلائهم.

وخسر فيها آلاف العسكريين إمكانية إخلاء جثثهم ليدفنوا مع الأهل في مقابر العائلة، بعد أن تُركوا في أرض الحرام مجهولين إلى الأبد.

فكانت هذه مسألة مهمة تناولها المراتب في أحاديثهم الخاصة، ومناقشاتهم الدائرة لتشكل في المحصلة ضغطا نفسيا أثر على التكافل قيمة عليا، وعلى تقدير الآمر / القائد قيمة عليا، أخلت بوضع العسكر العراقي وبحالته النفسية والمعنوية العامة خاصة في النصف الثاني من الحرب.

أما بالنسبة إلى التعويض فإن البعض من جوانبه قد تمت الإشارة إليها في موضوع الإعداد والتهيئة، وما بقي يتعلق بآلية التعويض التي اعتمدت على قدرة فائقة للتعبئة أدواتها:

جهاز حزبي يمتلك سيطرة مطلقة، وقدرة عالية على التحرك والتنفيذ.

أجهزة أمنية ممتدة إلى كل مناطق العراق تمتلك قدرة على الردع والتخويف.

قيادة عليا تتلاعب بكل شيء يوفر لها عنصر بشري تدفعه إلى الجبهة سريعا.

لكنها ورغم ذلك النجاح كانت غير قادرة على سد نقص الوحدات العسكرية التي تخرج من بعض المعارك، وقد تكبدت خسائر تفوق على 70% من قدرتها في أحيان ليست قليلة، وفشلها هنا لا يتعلق بقلة كفاءتها في هذا المجال، وإنما بعدد سكان العراق، ونسبة الأعمار التي تصلح للتجنيد من بينهم، والتي تناقصت بشكل سريع خلال فترة الحرب، وهذا جعل اعتماد القيادة على الاحتياط الذين أرهقوا، وعلى بعض المواليد التي وصلت سني خدمتها المستمرة بحدود 14 سنة مثل مواليد 1957، وعلى الشباب الذين يبلغون سن التجنيد لتلحقهم في بعض الأحيان بملابسهم المدنية إلى مدارس القتال التي لا تجد متسع من الوقت سوى تعليمهم الرمي بالبندقية، وإلحاقهم إلى وحداتهم المشتبكة بالمعركة فيكونوا طعما سهلا، وفي وضع نفسي تبقى تأثيرات انفعالاته السلبية طيلة فترة بقائهم جنودا في الجيش.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن النقص الحاصل بكم التعويض جعل العديد من الوحدات تقاتل بموجود يقل عن النصف في كثير من الأحيان، لم تأخذه القيادة الأعلى بنظر الاعتبار حيث الميل إلى تكليفها بالواجبات كونها وحدة أو تشكيل بالاسم، وتُحاسَب على النتائج كونها وحدة بالاسم، في حين لا يتناسب موجودها وطبيعة المهمة المكلفة بها من الناحية العسكرية، عندها كثرت الإخفاقات، وزادت نسب الهيكلة لبعض التشكيلات، وبقيّ القلق صفة مميزة للآمرين / القادة انتقلت عن طريق الحث إلى المنتسبين طيلة فترة الحرب.

ج . الإجهاد القتالي 

قاتل الجيش العراقي ثمان سنوات مستمرة قتالا صعبا بقيادة عسكرية عليا غير كفوءة، وفي ضل توازن مع الإيرانيين ليس في صالحه من حيث التعداد البشري، والميل العقائدي، والبعد الديني، وشكل الأرض وطبيعة الجبهة، التي فرضت جميعها استخداما خاصا "خطأ" للقطعات العسكرية في أحيان ليست قليلة، قوامه:     

أولا. تكليف الوحدة / التشكيل لتنفيذ نفس الواجب، وعلى ذات الأهداف أكثر من مرة، وإن أخفقت لأسباب خارجة عنها أو تكبدت خسائر فادحة تخرجها من الخدمة في القياسات الاعتيادية للجيوش، وتكرار من هذا النوع أدى إلى الإعياء البدني والنفسي.

ثانيا. طول جبهة القتال، وتحسن قدرة الإيرانيين في التمويه جعل القيادة العامة تلجأ إلى تحريك قطعاتها من الشمال إلى الجنوب وإلى الوسط، وبالعكس في ظروف لا تجد فيها وقتا للمبيت في المكان الجديد لتعود في تنقلها إلى مكان آخر، وبأوامر للحركة تكون مصحوبة على الأغلب بتهديدات للحث إلى الوصول بالسرعة الممكنة، وفي مواقف تقتضي الانفتاح لتشكيل المعركة حال الوصول إلى ساحتها، وهذا أمر لا يؤدي إلى التعب فقط، بل وكذلك إلى الملل، وعدم الرغبة في القتال.              

ثالثا. إن الشك الموجود في عقل القيادة، وعدم الثقة بالقادة الميدانيين، وأخطاء الاختيار والتنسيب إلى المناصب القيادية، جعل القائد العام يأمر في أحيان عدة بتبديل قائد فيلق أو فرقة أثناء المعركة، لاعتقاده فشلهم في إدارتها، وهو تبديل على الأغلب من خارج التنظيم الخاص بالفيلق أو الفرقة، يُقحمُ فيه قائد جديد يحمل في داخله هموم المعركة الجديدة، ومسؤولية النجاح الذي افترضه القائد العام في تنسيبه، وهذا مع عوامل أخرى قلل من الاستقرار النفسي للقادة، وجعلهم في دائرة التوتر شبه المستمرة.

رابعا. كما أن القيادة لجأت ولظروف تطور الموقف العسكري في غير صالحها إلى تكليف بعض الوحدات/القيادات التي نجحت في معارك قريبة بمهام أخرى في معارك آنية، وتعيد تكليفها أكثر من مرة دون التفكير بإعطائها فرصة للراحة، وفسحة لتعويض الخسائر، وهذا أمر لا ينطبق على الوحدات فقط بل وكذلك على الضباط والقادة الذين يكلفون بمهام متكررة، ولفترات زمنية تتعدى الأشهر أحيانا، مما أوجد حالة من التعب الشديد حد الإعياء في أحيان كثيرة.

وعموما فإن الإجهاد وبكل أشكاله يؤدي بالنتيجة إلى نقص فعلي في القدرة القتالية، وشعور بالضيق والألم، وزيادة في استنزاف الطاقة، كذلك قلة التركيز وضعف اللياقة البدنية، وأحيانا تغيرات فسلجية  تؤثر جميعها سلبا على الأداء، والحالة النفسية المعنوية. (9)        

د. الإنهاك العصبي 

إن استعراض ظروف الحرب، وأساليب القيادة، وشكل التعامل، وكثرة الخسائر، وطبيعة الأهداف يعطي تصورا عن تأثيراتها غير القليلة على الجهاز العصبي، لكننا لو أضفنا إليها طريقة القيادة العامة نزولا إلى السرية والفصيل في التعامل مع توقعات الهجمات الإيرانية، أو ما يسمى بالحيطة والحذر، والشد العصبي الذي ينتج عنها نصل إلى قناعة أنها أكثر العوامل إنهاكا للجهاز العصبي، إذ تصدر القيادة العامة بناء على تقارير الاستخبارات العسكرية مثلا أوامرها إلى أحد الفيالق بالتحوط لاحتمال قيام الإيرانيين بالهجوم على قاطعه أو على جزء من قواطع فرقه، وتطلب اتخاذ أعلى درجات الحذر، وعلى أساسها يقوم الفيلق وهيئة ركنه التي تدرك جيدا إن أي تقصير في حث المدافعين على الصمود يعني ثمنا لا يقل عن قطع الرقاب، وبذا يقومون بتعبير أوامر القيادة العامة ويزيدون من عندهم تأكيدات أخرى على التحسب والحيطة والحذر يمكن أن تدفع عنهم المساءلة المحتملة  في حالة الفشل، وهكذا تزداد شدة التحسب وتتضاعف معايير الحيطة، والحذر لتصل بصورة مرعبة إلى الجندي الماكث على الحافات الأمامية في انتظار الهجوم المزعوم، وهو انتظار يتلاعب الإيرانيون في إطالته عدة أيام تتكرر فيها التحذيرات مع كل ليل جديد، ويزداد فيها التعب حيث الحاجة إلى البقاء في حالة استيقاظ مستمر لعدة أيام. وبالنتيجة إن حصل الهجوم بعدها سيكون المدافعون مرهقون حد الإعياء، وإن لم يحصل، يعودوا إلى حالتهم السابقة استغراق في الراحة لن يستمر طويلا بسبب تحذيرات أخرى، وطلبات تَحَسُب أخرى بات الإيرانيون طرفا في وجودها طريقة للتعامل مع قيادة قلقة، وجنود مطلوب إنهاكهم عصبيا، أملا في الإقلال من معنوياتهم، ومن مستويات أدائهم ميدانيا.

علما أن الخبرات الميدانية تشير إلى أن المقاتل يستطيع الاحتفاظ بقدر من نشاطه وحيويته بعد العمل أو التنبه ليلة كاملة لكن أداءه في اليوم الثاني يتأثر بقدر أو بآخر، أما عند استمرار العمل أو تواصل الانتباه ليلة أخرى فعادة ما يشعر بالنعاس ثم يعقبها نوبات من التعب والضيق أو التوتر تكون بدايات لضعف في التركيز، وإذا ما تواصل ذلك ليوم ثالث فيكون الإنهاك والتعب واضحا مع ضعف في التركيز والانتباه، والدقة في التعامل مع المواقف المحيطة به، وبطئ فـــي تنفيذ الأوامر الصادرة له، وإذا ما استمر في عدم النوم لفترة أطول يضطرب سلوكه مع ظهور دلالات، وأعراض مرضية قد تصل إلى ما يسمى بالحالات الذهانية.         

هـ. اضطراب التقييم    

انتهت الحرب مع إيران ولم تستطع القيادة العسكرية إيجاد معايير للتقييم في كثير من الأمور، ولم تستطع أن تتجاوز أخطاءها في مجاله الحيوي.

ففي الجانب المعنوي على سبيل المثال لم تقبل القيادة ولا القادة الميدانيين نصائح المختصين في تحديد مؤشرات للحالة المعنوية، على أساسها يمكن قياس المعنويات، والقول أن الوحدة الفلانية تتمتع بحالة معنوية جيدة أو ضعيفة أو في حالة الوسط، وهذا يتعلق أيضا بشكل وخصائص القيادة التي يعتقد القائد الميداني أن مجرد الإشارة في تقارير الحالة المعنوية إلى ما يؤكد ضعفها بين إحدى وحداته تعني إهانة له أو بالمعنى الأدق مساءلة له لا يمكن قبولها، لذا كان الآمر/القائد يتدخل في هذا الجانب وكثيرا ما غَيّرَ من تقييمات ضابط التوجيه المعنوي وإن لم تكن قريبة من الواقع، حتى بات القادة في تقاريرهم إلى القيادة الأعلى وفي استعراضاتهم أمامها يشيرون دوما بعبارتهم المشهورة ( المعنويات عالية )، وهذا طبعا يوقع القيادة الأعلى في أخطاء فنية عندما تلجأ إلى تكليف تلك الوحدات بواجبات على أساس قدرتها الجيدة ومعنوياتها العالية.

كما إن اضطراب التقييم لا يتوقف عند المعنويات، فإنه يشمل الضبط، وتقدير الكفاءة العسكرية، وتقييم الحالة الأمنية وتحديد الولاء والإخلاص، وغيرها مجالات تشمل كل ما يتعلق به مسألة مهمة. وهذا أمر تتحمله القيادة العامة للقوات المسلحة التي رفضت مرارا العمل وفق مبادئ اختيار وتوزيع الأفراد على أسس قياسية كما معمول به في كافة الجيوش العالمية، وبعض الجيوش العربية، منها الجيش المصري مثلا، لأنها كانت تصطدم بتجاوزات القائد العام ورفضه الموافقة على مثل هكذا مشاريع تحدد من هامشه في تنسيب القادة واختيار هيئات الركن، وتوزيع الهبات، وذبح القرابين، وغيرها.

ويتحمل جزء منه القادة أنفسهم الذين انساق عديد منهم خلف أخطاء الحاكم والقيادة العامة، وطبقوا تعاليمها الخطأ بدقة متناهية، بل وزادوا عنها من عندهم لإبعاد الشك، وإثبات الولاء، فوقعوا وهيئات ركنهم بأخطاء أخلت بالمعايير والقيم العسكرية، حتى بات في مجالها يصعب التمييز بين الجبن، والشجاعة صفتين متناقضتين:

عندما يكرموا ضابطا بعشرات الأنواط تأكيدا لشجاعته بمقاييسهم السارية، ويذبحونه إعداما على الحافات الأمامية بطقوس تنفيذ يؤديها الزملاء.

( كما حصل للعقيد الركن برهان أحد ضباط الانضباط العسكري أصلا، الذي نقل إلى الجبهة بعد عام 1982 وعمل أمر وحدة، ثم ترقى سريعا إلى آمر تشكيل، وأشيد بشجاعته حدا كُرِمَ رتبة كاملة في معارك مندلي، نوطه بها الفريق الركن عدنان خير الله وزير الدفاع على ذات العارضة التي احتلها من الإيرانيين، وكانت السابقة الأولى في الجيش العراقي تقديرا لشجاعته الفائقة، لكنه أعدم بنفس الطريقة أي في أرض المعركة بسبب اتهامه بالجبن، والتخاذل في معركة لاحقة لا تبتعد زمنيا عن حادثة التكريم سوى بأشهر لا تزيد عن الثلاثة، والعكس وارد أيضا في تقييمات القيادة كما هو الحال بالنسبة إلى العقيد الركن عبد العزيز الحديثي الذي عزل من منصب آمر لواء مدرع في محاولة عبور نهر الكارون بداية الحرب، وحكم عليه بالحبس لمدة خمس وعشرين سنة بتهمة التخاذل "رغم أن سمعته والمعروف عنه العكس من هذا تماما، حيث الإفراط بالشجاعة " ليطلق سراحه من السجن قبل أن يتم فيه ما يقارب السنة ليعاد تعينه قائد فرقة ثم قائد فيلق برتبة لواء ركن، ويقتل في حادث طائرة سمتية على مقربة من كركوك).     

وعندما يرشحوا قائدا لمنصب أعلى تقديرا لكفاءته وإخلاصه، ليعاقبوه بتخفيض الرتبة، وإعادة تنسيبه بمنصب يقل عن منصبه الحالي بعدة مراحل.

( كما هو الحال بالنسبة إلى الفريق الركن ثابت سلطان الذي منح قدما عسكريا بحدود اثنتا عشر سنة "أي ثلاث رتب" وشغل كل المناصب القيادية من آمر كتيبة دبابات أول الحرب إلى معاون رئيس أركان الجيش للعمليات قبل انتهائها بفترة ليست بعيدة، لكنه ولأسباب خاصة، ألغيت كل سني تكريمه تلك، مرة واحدة ليعود مع قدم دورته الثالثة والأربعين، ويعين آمر لواء في فيلقه السابق، لتعاد له "أي رتبه" ثانية بطريقة مهدت لسجنه في المخابرات العامة، ثم أغتياله ورمي جثته على أحد المبازل القريبة من مزرعته بعد وقت قصير من إطلاق سراحه من السجن لاعتبارات خاصة أيضا لم يستطع أحد تقييمها سوى الحاكم نفسه).

وهكذا شاع التناقض والارتباك في معايير التقييم التي أخلت بالوضع العام للمؤسسة العسكرية، وساهمت في تهديم أركانها.   

هـ. إدارة الحالة المعنوية

لم يترك الحاكم/القائد العام مجالا للعسكر في أن يجتهدوا، فإن كان ذاك الاجتهاد فنيا يتعلق بالطيران على سبيل المثال فهو من يفتي به، وإن كان في مجال الصواريخ السوقية فهو الذي يحدد تفاصيله، وهكذا لجميع الصنوف والاختصاصات، وبينها التوجيه المعنوي "السياسي" الذي تطابقت وتبعا لتوجيهات القائد مفردات إدارته مع رؤى الحزب فكريا لتختلط مع الصيغ والضـــوابط العسكرية، خليطا غير متجانسا كان العمل في مجاله يتأسس على:

أولا. التهيئة الفكرية، وفيها تعتقد القيادة أن فكر القائد، وحزب البعث كافية لإعداد العسكر العراقي في مواجهته للإيرانيين، وعلى أساسها شكلت في دائرة التوجيه السياسي مديرية للثقافة، مهامها نقل ذلك الفكر وكذا توجيهات وخطب وتعليمات القائد/الحاكم إلى منهاج عمل يتم تعميمه على كل منتسبي الجيش العراقي، ليلتزموا به، وبعملها هذا أغرقت الوحدات والقيادات بالكراريس والبيانات التي لم يعد العسكر قادرين على متابعتها أو حتى قبول معانيها لكثرتها، وإعادة تكرارها، وعدم واقعية معانيها، فأصبحت مثيرة للاستجابات السلبية وأساسا للتخريب الفكري (قوميا) فيما بعد، وإن خصصت لإيصالها إلى عقول المتلقين ميزانيات ضخمة ووسائل وأدوات متعددة، إذ تعد مديرية الثقافة على سبيل المثال كراسا بالموضوع ، تنشره جريدة القادسية، ويلقي ضابط التوجيه السياسي محاضرة عن موضوعه في مقرات الوحدات، والتشكيلات والقيادات، وأحيانا في الخنادق الدفاعية، ولم يكتف بذلك، بل ويسجلها لتعرض بأجهزة الفديو في دور استراحة المقاتلين لمشاهدتها من قبل المراتب المجازين قبل تركهم القاطع في الطريق لأخذ قسط من الراحة، وبعد التحاقهم منها في الطريق إلى المعركة، في موقف لا يمكن أن يستوعب منها حرفا واحدا، إذا لم يكن عرضها إيحاء مضادا لموضوعها، أسهم في بعض جوانب الهدم المعنوي.

ثانيا. الدعم المعنوي، الذي يعتمد على فلسفة القائد/الحاكم في دفع الثمن، وهنا برعت دائرة التوجيه السياسي وحتى عام 1986 في منح الهدايا العينية للقادة، والضباط وفي حدود معينة لضباط الصف والمراتب، حتى باتت تلك الدائرة مزارا لعديد من القادة في إجازاتهم الدورية يعرجون لزيارة مديرها لقبض الثمن الخاص بهم هدايا من الدرجة الأولى ولقياداتهم أخرى من الدرجة الثانية والثالثة حسبما يتوفر في مخازن الدائرة، التي تجف أحيانا ليتحول الثمن نقودا من الفئات العالية.

ويعتمد كذلك على الإذاعات الميدانية التي عممت على كل الجيش لمستوى الوحدة، حيث تسجل الأشرطة الصوتية من قبل مديرية الإعلام في دائرة التوجيه السياسي أناشيد وطنية، وأهازيج شعبية تمجد أغلبها القائد الضرورة، لترسل إلى تلك الإذاعات، بالإضافة إلى برنامج القوات المسلحة في تلفزيون وإذاعة بغداد الذي لم يشذ عن تلق القاعدة في مفرداته وطريقة أداءه.

ثالثا. التحصين النفسي، أضفت إيران الصبغة الدينية على قتالها في الحرب، وحاولت تعبيرها إلى الجانب العراقي، وفــي مجـالها حـاولت دعايتهم السـوقية (إذاعـة، وتلفزيون) والتعبـوية (مكبـرات الصوت والمنشورات) إضفاء الطابع الديني الشيعي على مادتها مثل بث مقتل الحسين (ع) في عاشوراء، والتذكير ببعض المناسبات الدينية، وغيرها لاعتقادها إمكانية التأثير على ضباط الصف، والجنود الذين تشكل غالبيتهم من الشيعة، ومع ذلك فإن وقائع أحداث حرب الثماني سنوات تؤشر أن إيران لم تستطع تحقيق هدفها في تشييع المعركة لاعتبارات:

يتعلق بعضها بالوسائل الفنية الإيرانية محدودة التأثير، إذ أن مكبرات الصوت التي لديهم لا تتعدى مدياتها مئات الأمتار بالمقارنة مع تلك التي عند العراق بمدياتها التي تصل عدة كيلو مترات، وكذلك بالنسبة إلى قنابر الدعاية للهاونات، وقنابل الدعاية للمدفعية التي استخدمت بشكل ملحوظ مع بداية الحرب.

ويتعلق بعضها بقوة الردع التي أوجدها التوجيه السياسي، والأمن العسكري حيث الأمر بتجميع أية منشورات للإيرانيين بسرعة وتسليمها لضابط الأمن دون قراءتها، ومن يشاهد منكبا على القراءة ينتهي به الأمر معدوما في الميدان، وينطبق هذا المنع على التلفزيون الإيراني وإذاعتهم المحلية اللتان يغطي بثهما ساحة المعركة.

ويتعلق بعضها الآخر بالطبيعة المهنية العسكرية لمنتسبي الجيش العراقي التي قاتل عديد منهم  ونفذوا الأوامر على أساسها دون النظر إلى جوانب المعركة دينيا وقوميا.

وأضفت الحكومة العراقية الصبغة القومية التاريخية في قتالها مع الإيرانيين، وحاولت تعزيزها في العقل العراقي،  وكانت تلك الصبغة أساس التحصين في الجيش العراقي، وإن لم يفقه طبيعتها عديد مــن ضبــاط التوجيه السياسي.

والتحصـين الذي يقصد به توفير قدر مـن المناعة ضد تأثيرات الدعاية المضادة، والضغوط النفسية المسلطة لتحسين مستوى الأداء لـم تفلح دائرة التوجيـه السياسي والمنظمات الحزبية في الجيش من تأمينها عامل إثارة حاسم للدافعية في القتال، لأمور لا تتعلق بتأثيرات الدعاية الإيرانية، بل ولفشلهما في إيصال أهداف الحرب إلى عقول المقاتلين من ناحية، وتقصيرهما في التقليل من أثر الضغوط النفسية وتبرير أخطاء القيادة من ناحية أخرى.  

(إن المواصفات غير المكتوبة التي تريدها القيادة لضابط التوجيه السياسي هو أن يكون حزبيا بدرجة متقدمة ويفقه التلاعب بالألفاض، ولا يهم في أن يكون فاشلا في قيادة وحدة عسكريا أو من مستويات تحصيلية لا تتعدى الدراسة المتوسطة، ولا يشترط حسن سمعته الاجتماعية، ونزاهته الأخلاقية، كما في حالة العميد عبد المنعم الذي أوقف في الاستخبارات العسكرية بتهمة سرقة بنادق إيرانية من كدس لها في مقر الفرقة عندما كان ضابط للتوجيه السياسي فيها، وبعد اكتمال التحقيق وتثبيتها عليه، أطلق سراحه ليُنقل بعد فترة إلى مدير شعبة الإدارة في مقر الدائرة للفترة من 1985 ـ 1992، ومن ثم مشرفا على مطبعة التوجيه، حيث تبين أنه قد سرق كميات كبيرة من الورق المخصص لطبع جريدة القادسية بعد أن وجدت أجهزة الأمن بعض منه في الأسواق المحلية، ليوقف على أثرها عدة أشهر ويطلق سراحه بأمر من الرئاسة، ويعين ضابطا للتوجيه السياسي في أحد الفيالق ويرقى إلى رتبة لواء).   

إن التوجيه السياسي في الجيش العراقي الذي فشل في إيجاد حالة معنوية متوازنة لغالبية المعارك الدائرة فشل أيضا في إمكانية التخفيف من الضغوط المسلطة على المنتسبين، وعلى تقليص أثر الآفات التي كانت تفتك في المؤسسة العسكرية، مثل الغياب والهروب، والرغبة في الوقوع بالأسر، والإصابات النفسية وغيرها عوامل أثرت على الأداء العسكري.

إن الفشل لا يتعلق بالجوانب الفنية التي ذكرناها فقط، بل وكذلك بشكل الإدارة التي فرضها القائد العام/الحاكم على قمة التوجيه السياسي، عندما عين لمنصب مدير الدائرة مدنيا معروفا بقدرته الجيدة على الكتابة، وإيجاد التبريرات، والإسهاب في مجالهما، وصياغة البيانات، في قرار يعد الأول من نوعه في الجيش العراقي.

(عين عبد الجبار محسن وكيل وزارة الإعلام مديرا للتوجيه السياسي عام 1985 في أمر من صدام احتار الضباط في التعامل معه وكيفية مخاطبته، حتى مضى وقت ليعتادوا على مخاطبته بكلمة سيدي، ويؤدوا له التحية العسكرية، خلافا للضوابط العسكرية المتعارف عليها، وتجاوزا على معايير الضبط، وبقيّ في منصبه هذا حتى انتهاء الحرب). 

وهذا الأمور مع تركيبة التوجيه السياسي، والنوع المتدني لضباطه، وتَدَخُل الحزب في مفاصله، حيث اقتصار غالبية مناصبه على كوادر الحزب المتقدمة كما ورد في أعلاه، تسبب في نوع من الفشل امتدت آثاره سلبا للتجاوز على مسألة المعنويات التي تختص بها الدائرة، إلى التجاوز على القيم العسكرية، وضعف الالتزام، واستشراء سلوك الذاتية، والمنفعة الشخصية، وغيرها أمور قوضت مع أخرى أعمدة العسكرية العراقية.                      

4. انتهت الحرب حسب التوقيت العراقي في 8/8/1988، وكان الجيش بفرقه التي تزيد عن الستين فرقة مرهقا من الناحية المعنوية بعد تعرضه لضغوطها طيلة ثمان سنوات مستمرة.

ومستويات ضبطه تقل كثيرا عن بداية الحرب.

وسياقات تدريبه وتجهيزه قد تغيرت كثيرا.

وشَعَر قادته بالفراغ رغم تخلصهم من هموم المعارك وتبعات القيادة الأعلى، واكتشفوا بعد توقف القتال أن معالم الضعف قد أصابت كل جوانبه، وإن إصلاحها يستلزم جهودا غير متاحة، وترميم جوانبها يتطلب أموالا غير ميسورة، والمحافظة على مكتسباتهم ووجودهم يقتضي أوضاعا غير ممكنه، فأصيبوا بصدمة زادت من تعقيد الوضع المعنوي للجيش العراقي، وبدأ البعض منهم يتصرف بصيغ الميدان وبضوابط الحرب التي يجيد فنها، فحال دون السرعة في إعادة بناء الجيش لمرحلة ما بعد الحرب، ومهد بأفعاله وتقاريره وادعاءاته القوة والتمكن إلى حرب أخرى، كانت هي حرب الخليج الثانية. 


وضع الجيش العراقي في الحرب الخليجية الثانية 

1. يعد السياسيون حرب الخليج الثانية امتدادا لحرب الخليج الأولى، ويعد أداء الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية واستخدامه أداة طيعة في إفتعال الأزمة نتيجة حتمية لما آلت إليه الأمور في الحرب الأولى، إذ أن الضعف التبعي لكبار القادة العسكريون وإمتثالهم غير المحدود لأوامر الحاكم، وعدم استعدادهم لمناقشته في أبسط الأمور وأعقدها، والإشادة بخططه العسكرية الفاشلة، والثناء على توجيهاته الميدانية غير الصحيحة، وتقديم المقترحات العسكرية التي تستهوي ميوله، والركض من أمامه لإزالة العقبات، وغيرها خصائص ومواصفات، دفعته إلى التمادي في تجاوزهم قادة وجدوا لأغراض تسهيل تنفيذ تطلعاته ورغباته، وهذا ما حصل مع بداية احتلال الكويت الذي نفذ بأسلوب المافيا والعمليات المخابراتية البعيدة عن خطوات العسكر في التحشد والتقدم وتنفيذ الهجوم بصفحاته المعروفة، إذ جرى تقدم أفراد من جهاز المخابرات على منطقة العبدلي ودخلوها بحافلات توحي أنهم مسافرين، احتلوا المنطقة الحدودية، وقطعوا الطرق وخطوط الاتصال، فمهدوا لقطعات الحرس الجمهوري القريبة بالتقدم سريعا بالدبابات، وناقلات الأشخاص المدرعة، ودعم لا حق من الطائرات السمتية غير المسلحة جيدا ليفاجئوا الكويتيين بتجوالهم في شوارع المدينة مع ساعات الصباح الباكرة يوم 2 آب 1990 لتبدأ الصفحة الأولى من الأزمة، والصفحة الثانية من التخريب والهدم لمرتكزات العسكرية العراقية.

( ورد على لسان أحد ضباط التوجيه السياسي قسم التصوير أن الفريق الركن سعدي طعمة الجبوري وزيرا للدفاع إبان الغزو، كان قد ثَبَتَ أمين سره اللواء الركن ناطق موعدا له مع مدير شعبة التصوير في التوجيه السياسي ليحضر بالساعة الثامنة صباح يوم 2 آب بقصد أخذ صورة فوتوغرافية في الاستديو الخاص بالدائرة، وقد حضر بالفعل بنفس التوقيت، وكأن الأمر طبيعيا، عدا استغراب كان باديا على صيغة استفسار وجهه بلغة دبلوماسية عن صحة دخول الجيش العراقي الكويت. كذلك كان الحال بالنسبة إلى الفريق الركن نزار الخزرجي رئيس أركان الجيش الذي يتداول المقربون منه أنه سمع الغزو عن طريق نشرات الأخبار التي كان يتابعها من الراديو).   

2. ولمناقشة تأثيرات عموم هذه الحرب على وضع الجيش العراقي لا بد وأن تكون المناقشة شاملة لأربعة مراحل تبدأ الأولى مع بدء الغزو والتحضير للمعركة الدفاعية، وتكون الثانية لمسألة القصف الجوي وفعل الهجوم البري، والثالثة تتعلق بالانسحاب السياسي والتمهيد لفعل الانهيار، وأخيرا الرابعة التي تتناول الانهيار ومعطيات التمرد والانتفاض.           

أ. المرحلة الأولى: الغزو والتحضير للمعركة الدفاعية 

دخلت قوات الحرس الجمهوري لتأمين المباغتة وقوة الصدمة تبعتها وحدات من الجيش العراقي، ومن ثم قواعد للجيش الشعبي لينتهي الأمر احتلالا كاملا للكويت وضمها لأرض العراق، وإنشاء دفاعات حول المدينة وفي داخلها، وتنظيم موضع دفاعي يمتد من نقطة التقاء البر الكويتي بالخليج العربي ليتجه غربا بمحاذاة الحدود السعودية العراقية مستوعبا غالبية الجيش العراقي الذي يزيد تعداد أفراده آنذاك على المليون فرد، بقوا في مواضعهم حتى بدء الهجوم الجوي يوم 17/1/1991 ومن بعده الانسحاب المشهور يوم 25/2/1991.

وهذه مرحلة عند النظر إلى تأثيراتها على وضع الجش العراقي لا بد من الإشارة إلى إنها امتداد لمرحلة الحرب مع إيران، فالقيادة هي ذات القيادة التي صادرت قرار القائد العسكري، وهي التي وضعته تحت ضغط تهديداتها المستمرة، وهي التي اشترت موقفه الوطني بثمن باتت تدفعه في مناسباتها المتعددة.

وسياقات التعامل بين الأعلى والأدنى لم تتغير طبيعتها في هذه الفترة عما كان يجري في تلك الحرب. والفردية والذاتية وعدم تحمل المسؤولية، والتوجس والخوف والتحسب، خصائص سلبية بقيت نسبتها عالية في الشخصية العسكرية.

لكن التغير الوحيد في المقارنة بين المرحلتين ما يتعلق بالشباب الذين قادوا الحرب مع إيران بخبراتهم المحدودة، أصبحوا الآن أكثر نضجا، وإدراكا لمستلزمات الحرب والقيادة لكنهم ومن ناحية ثانية زادوا تخوفا وقلقا نتيجة للكم الهائل من إنفعالات الخوف التي تراكمت في نفوسهم لعشرة سنوات مستمرة، وكذلك اقتصار خبرتهم على القتال بفنون وأساليب تقليدية تتلاءم ومستوى الحرب مع إيران.

وعموما فإن تسليط الضوء على هذه المرحلة التي تركت بصمات واضحة على وضع الجيش العراقي يستوجب مناقشة متغيرات وعوامل أخرى كان لها تأثير سلبي ملموس على وضع الجيش مع عَّدْ المتغيرات التي نوقشت في مرحلة الحرب مع إيران أساسا أو عوامل مستمرة تأثيراتها، على سلوك ومواقف الجيش التي رسمت معالم الانهيار، وحددت دوره في التعامل مع الأزمة بينها:

أولا. اضطرابات الدفاع 

أوكلت القيادة العامة مهام الدفاع إلى أربعة فيالق ( فل1 ، فل3 ، فل4 ، فل7 ) وأعطت واجب الدفاع عن مدينة الكويت إلى قيادة قوات الخليج، وأبقت قوات الحرس الجمهوري لأغراض الاحتياط والهجوم المقابل.

إلا أن طبيعة تهديد الحلفاء وشكل الأرض الصحراوية المكشوفة حتم قيام العسكر العراقي باتخاذ وضع الدفاع لعموم قطعاته، أي حفر مواضع وملاجئ، وإعداد الأرض لتجنب تأثيرات القصف الصاروخي والجوي، والاختفاء من الرصد الجوي ومتابعة الأقمار الصناعية جهد الإمكان، وهذا وضع فرض على العسكر البقاء في مواضعهم لفترات ليست قصيرة خاصة بالنسبة إلى وحدات الجيش القريبة من الحافات الأمامية للموضع الدفاعي، لأن التحرك يعني الكشف، اللذي يحتم التأكيد على الإقلال من الحركة نهارا والتعويض عنها فيما يخص الأرزاق والأمور الإدارية ليلا على الأغلب، إلا في الحالات الضرورية.

وإذا ما أضفنا عزلة الموضع الدفاعي عن التجمعات السكانية والمدن "عدا مدينة الكويت" نرى أن العزلة والشعور بها كانت منشرة بين عموم المدافعين، وهذه العزلة التي قيدت الحركة في الأيام الأخيرة "ما قبل القصف الجوي "أضعفت كثيرا المعنويات، وزادت نسب الإصابات النفسية، حيث الإيذاء المتعمد للنفس، والميل للانتحار، وكثرة المشاجرة وغيرها.

( من المعروف في الأدبيات النفسية أن القلق يزداد كثيرا في ظروف الحرب، وزيادته تعني عدم القدرة على الاستقرار، وفي حالتها يجد المعني نفسه ميالا إلى التحرك، إذ يجلس تارة ليكتشف أن الجلوس لم يخفف من قلقه فيعود إلى الوقوف ثم المشي  إو الإيماء وغيرها حركات في حالة عدم مساعدة الموقف على القيام بها تزداد شدته "القلق" ويتحول انفعاله إلى اضطرابات عصابية، وضعف في المعنويات).

إن العزلة وتقييدات الحركة المفروضة باستمرار الوقت، مع النقص الحاصل في الأرزاق والمياه، وترشيد ومن ثم منع الإجازات، وانعدام الترفيه، وقلة الاختلاط، وكثرة التحسب تسبب في وضع نفسي لغالبة المنتسبين قربهم من حافة الانهيار، وهذه مع أسلوب قيادة القوات ونقص الأرزاق والمياه لغالبية القطعات باستثناء الحرس الجمهوري عرَّضت المقاتلين العراقيين لأعباء أكثر من طاقتهم، وساعدت في تكوين إدراكاتهم باتجاه جسامة الخطر الذي يتهددهم، وكانت تلك ضغوطا نفسية سُلطت عليهم طيلة تواجدهم في الموضع الدفاعي، تسببت في زيادة حالات الاكتئاب ومصاعب النوم، وفقدان الشهية والشعور بالإنهاك وضاعفت من نسب الإصابات العضوي، النفسية مثل ارتفاع نسبة الكولسترول في الدم، والطفح الجلدي، وتساقط الشعر، وتسارع ضربات القلب، وعدم القدرة على الاسترخاء لأعداد غير قليلة من المدافعين (10).

ثانيا. الغياب

الغياب ظاهرة سبق وجودها حرب الخليج الثانية أو بالمعنى الأكثر وضوحا كانت قد بدأت خلال الحرب مع إيران، إذ بينت دراسة إحصائية قامت بها لجنة خاصة قبل انتهاء الحرب مع إيران بفترة قصيرة أن عـــــدد الماكثين في الهروب بلغ سبعون ألفا وثلاث وعشرون هاربا، وهو رقم يمثل فقط 05/64% من العدد الإجمالي للغياب والهروب الذي بلغ ( 109325 ) في وقت إعداد الدراسة بينهم ( 88 ) ضابط  (11)، وهي أرقام عالية المستوى مهدت مع الأستمرار بطرق التعامل غير الصحيحة مع الظاهرة إلى مضاعفتها إبان حرب الخليج الثانية، وتميزها بارتفاع نسبة الضباط، ونواب الضباط، وضباط الصف بين الهاربين، وتعود أسباب ذلك إلى:         

(1). عدم الإيمان بهدف القتال الذي وجد العسكر أنفسهم محشورون في مجاله دون سابق إنذار.

(2). قلة التواصل بين الآمرين ومنتسبيهم، وكذلك بين المعنيين بالتوجيه المعنوي، والضباط والمراتب لعدم مساعدة الأرض الدفاعية على تجميع عدة أشخاص في مكان واحد.

(3). قناعة العسكر ضباطا ومراتبا أن المعركة خاسرة، وإن العدو يتفوق عليهم بعشرات الأضعاف التي لا تعطي فرصة للخروج بسلام، رغم أن العديد منهم كان معتقدا أن المواجهة سوف لن تتم، وإن صدام يناور إلى آخر لحظة، وكان هذا شعورا موجودا ولحين بدء القصف الجوي الذي أوجد صدمة زادت شدتها تأثيرا، بسبب الإحباط الذي ولدته تلك التصورات غير الدقيقة.

(4). طول فترة الترقب والانتظار التي أنهكت الجهاز العصبي، وقللت من قدرة العسكري على التحمل، وأضعفت حججه وتبريراته في الصمود.

(5). التأثر النفسي بالإعلام العالمي، ودعاية الحلفاء السوقية التي وظفت جهودا كبيرة لتأكيد الإحساس بالحياة، إي تنشيط غريزة الحياة والرغبة في المحافظة على الذات التي لم يجد العديد من العسكر مجالا لتحقيقها إلا من خلال الهروب من المواجهة. 

(6). عدم ملائمة الدفاع الذي أعدته القيادة العامة، وأملته الظروف التعبوية على إشباع حاجات العسكر العضوية (الطعام، والنوم، والراحة) والنفسية مثل الشعور بالأمان، التي تضافرت لتزيد من نسبة اليأس الذي ساعد على الهروب.

(7). كما تدخل رتابة الحياة في الموضع الدفاعي التي أوجدت نوعا من الملل عاملا يضعف المعنويات ويزيد من نسب الهروب.

(8). التأثير السلبي لبعض العوامل العسكرية في إحداث الهروب وزيادة نسبه مثل:

(أولا). تعرض العديد من المراتب إلى الضرب والإهانة والتجريح المستمر التي أشعرتهم بالدونية والرغبة بالتخلص من الموقف المهين.

(ثانيا). عدم وجود أسس عادلة لتوزيع الواجبات، والإجازات، وحتى الأرزاق. 

(ثالثا). فساد الذمم واستشراء الوساطات، والرشوة في منح الإجازات، والإخلاء الطبي.

(رابعا). التمييز بين المنتسبين عشائريا ودينيا وطائفيا في كل ما يتعلق بحياتهم، وطبيعة خدمتهم في الوحدة.

(خامسا). ضعف كفاءة البعض من الآمرين، وتدني مستويات معنوياتهم الذي انعكس سلبا على وضع المراتب وزاد من رغباتهم بالهروب، كذلك استخدام القسوة، والعقوبة بأبعد مدياتها من قبل الضباط والآمرين دون مبرر أحيانا.

(سادسا). عدم تفهم ظروف، ومشاكل الضباط بالرتب الصغرى وضباط الصف والجنود، وعدم القدرة على حلها.

إن ظاهرة الهروب التي بدأ الجيش العراقي يعاني من تزايدها مع تقادم الأيام والاقتراب من يوم القصف، زادت بشكل كبير وغير مسيطر عليه مع بدء القصف التمهيدي، وتميزت بالإضافة إلى كثرة أعداد الهاربين شيوع هروب الضباط، وبنسب أثارت قلق القيادة وحيرتها. الأمر الذي أثر على المتبقين في الموضع الدفاعي، وكذلك على القدرة القتالية العامة للجيش.

ثالثا. العمليات النفسية 

كانت القيادة العامة ومنذ الأيام الأولى للغزو تعاني مشكلة إقناع العسكر العراقي في أمور مهمة تتعلق: بأسباب الغزو، ودوافع عدم الانسحاب، وجدوى مواجهة اثنان وثلاثين دولة بينها أمريكا الأقوى في العالم.

وكانت قيادة الحلفاء تمتلك من جانبها حجج مقبولة تتعلق:

بتحرير الكويت، والدفاع عن السعودية، ومحاربة التجاوز والدكتاتورية.

وتلك أهداف للحرب النفسية سمحت للحلفاء التحرك الواسع بحرية كاملة، وبوسائل وأدوات متعددة لعموم الكرة الأرضية من فضائيات، ومحطات إذاعية معروفة مثل (لندن، صوت أمريكا، مونتكارلو) وغيرها العشرات، وصحف عالمية ودور نشر دولية، وتحرك دبلوماسي واسع، حشدت جميعها، للتأثير النفسي على العسكر العراقي.

وبالمقابل كانت أهداف الحكومة العراقية مرتبكة وغير واقعية، لم يتوقف فشل تأثيرها في حدود عدم الاقتناع فقط، وإنما بات تكرارها مثيرا للتوتر والانزعاج، هذا بالإضافة إلى محاصرة الوسائل النفسية العراقية في تلك المرحلة ومحدودية تغطيتها.

إذ لا تصل الصحف المحلية إلى المدافعين بشكل منتظم.

ولم تستطع دائرة التوجيه السياسي تنظيم أنشطتها في التوعية الفكرية، والمعلوماتية كما كان الحال إبان الحرب مع إيران.

ومعدات الحرب النفسية التعبوية سواء منها الخاصة بالطائرات أو العجلات باتت مقيدة تماما.

الأمر الذي تسبب في النهاية بقاء دعاية الحلفاء، وحربهم النفسية فاعلة بالنسبة للمدافعين العراقيين، لم يقتصر تأثيرها على الجانب المعنوي وزيادة نسب الغياب، بل والمساهمة غير المباشرة بفعل الانهيار الذي حصل مع بدايات إحساس العسكر بضعف السلطة الضابطة.

وهي "أي دعاية الحلفاء" لم تتوقف في عملها الموجه عند حدود تعميق عدم الاقتناع بجدوى الحرب وبطلان أهدافها، بل وحاولت تعميق هامش المجهول في النفس العراقية بشكل عام، والعسكر العراقي على وجه الخصوص، إذ أنها باتت تركز على:

حجم الدمار القادم، والمستقبل غير المضمون، واحتمالات تقسيم العراق، وإعادته إلى عصر ما قبل الصناعة، وغيرها مفردات في الحرب النفسية السوقية عمقت هامش المجهول الذي يحتل أصلا حيزا كبيرا في تفكير العسكر العراقي عندما وجدوا أنفسهم بمواجهة عشرات الأسئلة المبهمة، وهم غير مستعدين لقبول تفسيرات الحكومة التي لا يثقون بها لطبيعتها غير المنسجمة وأفكارهم المخزونة. فكان المجهول من أكثر العوامل إثارة لتوجس الخطر، والقلق الشديد التي أثرت سلبا على حال العسكر، ومهدت لفعل الانهيار.

( إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أن التوجس والقلق الشديدين يؤديان إلى ما يسمى بالتحفيز الفسلجي الذي يدفع عددا من الغدد الصماء إلى إفراز الادرنالين، والنورادرينالين لتساعد الجسم على التعامل في مواجهة الخطر.

 وتتناسب تلك الإفرازات مع شدة الخوف والقلق لتصل إلى درجة مزعجة قد تعيق التفكير السليم لدى العسكري، فيتغلب عليه التوتر الشديد، وتصبح ردود أفعاله غير سوية، ويفقد فعاليته القتالية تماما رغم خلو جسمه من الإصابات العضوية، وهذا ما حدث لعديد من العسكر العراقي قبل تنفيذ فعل الهجوم البري وحصول الكارثة).

وتلك أجواء كانت مساعدة جدا لانتشار الإشاعات التي يرجع بعضها إلى قدرة الحلفاء ونشاط إعلامهم ، والبعض الآخر إلى ضعف الحكومة العراقية، وعدم قدرة أجهزتها على الرد أو حتى على صياغة إشاعات ملائمة، عندها تداخلت إشاعات الخوف الذي زادت شدة تأثيرها بتناقص الأمل، لتنتج وضعا نفسيا استنزفت فيه معظم الطاقة العصبة " النفسية " خاصة في الأيام التي سبقت الهجوم البري.  

ب. المرحلة الثانية: القصف الجوي وفعل الهجوم البري 

أولا. لو جاز لنا أن نصف حالة المقاتل العراقي في بعض جوانبها " السلبية " نرى وعلى ضوء التقييم المعقول للحالة المعنوية، وعلى وفق التقارير التي كان يرفعها المركز النفسي المتقدم، الذي شُكل بطريقة تشبه اللجان الموسعة لمتابع الحالة المعنوية والنفسية للجيش بعد أن فتح مقره في البصرة، قضاء أبو الخصيب برآىسة مدير التوجيه المعنوي، يعاونه ضباط أطباء وأخصائيين نفسيين من اللجنة النفسية في وزارة الدفاع، وآخرين من الطبابة العسكرية، وضباط من التوجيه المعنوي، ومفارز نفسية من شعبة الاستخبارات النفسية، وهي تقارير تكاد أن تكون يومية تطورت من حيث الصياغة لتكون أقرب إلى الواقع أيام القصف وتنفيذ الهجوم البري، وعموما فإن الوصف الذي يمكن أن ينطبق على الحالة النفسية المعنوية آنذاك هو:            

(1). إن النشاط العام لغالبية العسكر القابعين في مواضعهم ينقصه الدافع، ويفتقر إلى الأهداف الواضحة.

(2). إن البعض من معالم النشاط العسكري الخاص بنقل البريد والتموين والتنقل بين المواضع قد تناقصت بشكل ملحوظ، لتكون شبه معدومة أو غير مرغوب بها مع بدأ القصف الجوي حتى بات الوجوم يخيم على الوجوه، وبشكل ملحوظ. 

(3). اعتقاد الآمرين بكافة المستويات بعجزهم عن تقديم دعم لجنودهم، الأمر الذي حدد من حركتهم التي باتت هي الأخرى غير مستحبة من قبل المراتب أنفسهم لأن كثير منهم يضن أنها حركة يمكن أن تجلب طائرات العدو وتزيد شدة القصف.

(4). إنها حالة ملل بالمفهوم العلمي للسلوك البشري، ورغبة ملحة لتغيير نمط الحياة أدت إلى الإحساس بالتعب والإجهاد على الرغم من قلة الحركة، وانعدام المجهود العضلي.

(5). تلك الرتابة في المواضع المحفورة تحت الأرض، وفي أجواء الصحراء شديدة البرودة في وقت بدء القصف الجوي، وصعوبة الحركة في النهار على وجه الخصوص تزيد وبشكل ملحوظ مغالاة المقاتلين بتقدير وطأة الزمن الذي باتت ساعاته أياما ثقيلة تنذر بالهلاك شبه المحتوم.  

ثانيا. إن بدء القصف الجوي والمدفعي الكثيف على المواضع الدفاعية، وإن قلص من هامش المجهول في بعض جوانبه بعد أن أصبح قصد العدو واضحا بالنسبة إلى المدافعين، لكنه ومن جهة أخرى تسبب في بعض الآثار التي انعكست سلبا على الوضع العام منها:

(آولا). الحد من دور القيادة   

كان القصف مع بدايته قد استهدف مقرات القيادة بدء من السرية والفوج حتى الفرقة والفيلق، والمقرات الميدانية للقيادة العامة، وكذلك عقد المواصلات، ومفارق الطرق، ومراكز الاتصال، ورغم توجه القيادة العامة لوضع خطط لإدامة الاتصال بين القيادات وتشكيلاتها، والتشكيلات ووحداتها وهكذا حتى مستوى الجندي في الحافات الأمامية، لكنها في الواقع العملي قد توقفت عند المواضع القريبة من الحافات الأمامية لصعوبة التحرك، وتقلصت بشكل ملحوظ في العمق لنفس السبب، إلا في حدود المخاطرة بنسب عالية أو في الليل على الأغلب، وهذه الحالة التي حُيِدَتْ أو غُيبت فيها القيادة، ومع خاصية التواكل وعدم تحمل المسؤولية في جيش لم يدرب أو حتى لم يتوقع مثل هكذا مواقف جعل الارتباك يدب بين المقاتلين من الأيام الأولى للقصف، وحَوّلَ هامش المجهول من جهة العدو إلى الجهة المعاكسة التي بات المقاتل لا يعلم فيها عن آمره أو قائده في أحيان ليست قليلة، ولا يعلم ماهية الإجراء الذي يمكن أن يتخذ في المواقف المقبلة.

(ثانيا). شدة الصدمة 

للجيش العراقي خبرة قتالية مع إيران لم يتناساها العسكريون الذي أدارت الحكومة وجهتهم فيها من الحدود الشرقية إلى الجنوبية والجنوبية الغربية في سنتين، لم يأخذوا فيها فرصة للنسيان، وكانت خبرة الثماني سنوات تسمح في أن يخرج المشاة من مواضعهم للنظر إلى الطائرات الإيرانية وهي تؤدي مهامها في القصف، وخبرتهم تذكرهم أن تشكيل الطائرات الإيرانية زوجي، أو رباعي في كثير من الأحيان، وتذكرهم أيضا أن احتمالات التعرض للإصابة بسبب تلك الطائرات ليست عالية، وإن قوة التدمير التي تحملها قنابلها من الوزن الوسط بسيطة، وصواريخها ذات توجيه بطرق تقليدية، والمنطقة التي تستهدفها ليست واسعة نسبيا.

وبمقارنتها عمليا مع أسراب متعددة لطائرات الحلفاء التي بلغت أعداد المقاتلة منها فقط (1543 ) طائرة، وزعت مهامها توزيعا دقيقا بين مقرات القيادة، ومراكز الاتصال، وقواعد الصواريخ، والدروع، والمدفعية، وأكداس العتاد ونقاط الماء والأرزاق، والآليات حسب تسلسل أهميتها في المعركة، ومن بعدها مواضع المشاة الذين شلت حركتهم إلا من انتظار بات مؤلما.

وبمقارنتها فعليا بدقة إصابتها وسعة المنطقة التي تستهدفها، ووسائل التشويش، والإعماء الإلكتروني التي تستخدمها، وآلاف الأطنان من قنابلها الثقيلة وصواريخها التي  توجها ليزريا.

مقارنة عقلية غابت فيها الطائرات العراقية عن ساحة المعركة تماما، فكانت نتيجتها ليست في صالح المجازفة بالخروج من الملاجئ، ولا في صالح المراهنة على احتمالات النجاح ولو بأدنى الدرجات، فشكلت صدمة انفعالية أعادت المقاتل إلى ملجئه محبطا يتحين فرصة الخلاص.

مقارنات في خبرات الحرب لم تقتصر على الطيران الذي مهد لكسبها من قبل الحلفاء، بل وامتدت إلى المدفعية التي لم تعد تتوقف عن القصف التمهيدي منذ الساعات الأولى ليوم 17/1/1991 حتى الشروع بالهجوم البري في الساعة 400 0 يوم 24 شباط، بعيارات مختلفة، ومسافات متعددة لا يمكن تقريب تأثيراته أو مقارنتها بمدافع حرب الخليج الأولى.

وكذلك إلى الطائرات السمتية التي تجوب سماء المعركة في حركة دائبة لاصطياد الدبابات ومواضع المشاة، وإلى ( 3850) دبابة قتال رئيسية، وغيرها أسلحة، ووسائل تأثير لا تقترب من تلك التي استخدمت في حرب الخليج الأولى بأي شكل من الشكال. 

نتائج لمقارنات زاد العدو بإعلامه، وعملياته النفسية السوقية والتعبوية الاعتقاد بها فكونت ضغطا نفسيا على المدافعين كانوا فيه شبه معطلين إلا بالتفكير عن كيفية الخلاص، وتلك كانت إحدى أهم عوامل الانهيار.

ج. المرحلة الثالثة: الانسحاب السياسي والتمهيد لفعل الانهيار 

أولا. لم يكن صدام يريد الانسحاب من الكويت، ولم يفكر بطريقة الانسحاب خيارا أو نتيجة لتقدير موقف عسكري في مواجهته مع الحلفاء لاعتبارات شخصية على الأغلب، خاصة وإن العسكر العراقي القريبين من موقعه القيادي عجزوا بمعرفتهم الجيدة بإمكانات الجيش العراقي، وقدرته القتالية عن إيجاد تفسير منطقي لإصراره عدم الانسحاب، وقبوله المعركة الخاسرة بكل المقاييس العسكرية، الأمر الذي رجح العامل الشخصي في معادلة اللعب مع الحلفاء، وعلى أساسها أصدر أمرا قبل بدء المعركة بفترة وجيزة ينص على عدم الامتثال لأية أوامر تخص الانسحاب، وإن جاءت منه شخصيا وعلى لسانه بوسائل الإعلام، فوضع بأوامره هذه البقاء في الموضع الدفاعي غاية تفوق أهميتها غايات أخرى مثل قيادة معركة دفاعية ناجحة أو القتال من أجل العراق، والأهم منهما ارتباط الغاية في عقل المدافعين بالانتحار الجماعي.

ثانيا. لكن العسكر العراقي ورغم امتلاء تفكيرهم بتفاصيل ذلك الانتحار واحتمالات الهلاك، وعديد من الأسئلة الخاصة بعدم جدوى الدفاع، وكثير من الشحنات الانفعالية السلبية التي زادت من قلقهم فإنهم نفذوا أمر الدفاع بشكل مقبول بمقاييس الوحدات، وليس بمعايير الأفراد حتى الدقائق الأولى من أمر الانسحاب، وبمعنى أدق أن مقرات الوحدات والقيادات العسكرية المدافعة بقيت في مواضعها منفذة أمر القيادة العامة دون أية بوادر للتمرد أو العصيان على تلك الأوامر، بينما لم يكن الأمر هكذا على مستوى الأفراد الذي زادت نسب هروبهم من الموضع الدفاعي، وكذلك تسربهم إلى الخلف، وبمستويات لم تستطع إجراءات الحزب والاستخبارات العسكرية القسرية من الحد منها، وبحدود باتت فيه ظاهرة أخلت بالقدرة القتالية لكثير من وحدات المشاة المدافعة على وجه الخصوص، كما قبلوا فكرة الموت في صحراء الكويت، أو نفذوها على أساس الانضباط القسري، الذي تكون في سلوكهم  نتيجة حتمية لتصارع الأفكار ذات الصلة بالموت باتجاهاته التجنبية المؤلمة :

الاتجاه الأول: احتمالات الموت إعداما من مفارز الحزب، وأجهزته عند ترك الموضع الدفاعي.

الاتجاه الثاني: احتمالات الموت شهداء في مواضعهم الدفاعية بعيدا عن الذل، والمهانة لهم ولعوائلهم من بعدهم.

فكان تفضيلا للاتجاه الثانين ولغالبية المنتسبين من الضباط على وجه الخصوص، وكان له الأثر الكبير على بقائهم في حالة توتر شبه دائمة، وعلى تحديد طبيعة انسحابهم الذي تحول إلى فوضى، وكارثة عسكرية. 

ثالثا. هذا ولإعطاء تصور بقدر معقول عن تأثيرات هذه المرحلة على وضع الجيش العراقي لا بد من الإشارة إلى مواضيع يمكن أن تعطي تصور أكثر دقة عن حالته العامة إبان تلك الفترة، وانعكاساتها على وضعه المستقبلي منها:

(1). طبيعة الانسحاب 

عندما أمرت القيادة العامة الفيالق المدافعة بعدم الانسحاب من المواضع الدفاعية لأي سبب كان وتحت أية ظروف ممكنة، زادت درجات القلق في نفوسهم من جهة، وتضاعفت مستويات البغض الموجه إلى السلطة في داخلهم من جهة أخرى.

وعندما شدد الحلفاء ضغطهم على أولئك المقاتلين المدافعين، دفعوا إلى أن يكون القلق في أعلى درجاته، وأن يكـون البغض مقتا في أعلى مستوياته، فكان جل همهم "المقاتلين" في تلك اللحظات الحرجة يتركز على كيفية التخلص من هذا القلق القاتل، وجاءت الفرصة بالساعة 1800 يوم 25/2/1991 عندما:

أصدر صدام أوامره "دون الرجوع للعسكر، وتقادير الموقف" بالانسحاب الذي وجد فيه جميع المدافعين أنفسهم مسرعين لترك مواضعهم بقوة دفع غير طبيعية تضافرت مع جهد الحلفاء العسكري الضاغط لتحوله إلى كارثة عسكرية لم يخبرها الجيش العراقي من قبل.

ولم تعرفها الجيوش القريبة من العراق في سابق عهدها، وذلك لعدة أسباب بينها:

(أولا). أربك أمر الانسحاب، وطريقة تبليغه السريعة وغير الاعتيادية الآمرين والقادة الذين ما زالوا يعملون بضوء الأوامر السابقة التي تحرم الانسحاب.

( وما يدعم حالة الفوضى والإرتباك تأكيد لبعض الآمرين على أن أمر الانسحاب قد وصل إليهم برسالة شفوية نقلها معتمدين مرتبكين كانت لا تتعدى عبارة باللهجة العراقية الدارجة ( خلصوا أنفسكم )، وأكد آخرين أن الأمر بُلغ إليهم بالتلفون الميداني بعبارة انسحبوا فورا دون أية تفاصيل، ومع احتمال صحة هذه الروايات، وأخرى أكثر إثارة للتوتر والارتباك، فإن أمر الانسحاب يؤكد على وجوب أن تُكمل كافة القطعات العراقية انسحابها إلى داخل حدود العراق خلال يوم واحد، وأن تسحب معها ما تستطيع سحبه من معدات، وبعكسه تدمر الباقي في أماكنه الموجودة قبل الشروع بالإنسحاب). 

وهذا أمر بالانسحاب كانت صياغته في ظروف غير طبيعية لا تثير التوتر فقط، بل ومهدت إلى الفوضى  والاضطراب، ووضعت المقاتلين عموما والقادة والآمرين خصوصا في حالة من الحيرة، والتردد، وعدم التصديق، لم يفيقوا منها إلا ومنتسبيهم قد خرجوا من مواضعهم الدفاعية خارج سيطرتهم الفعلية.

وبذا لم يكن أمامهم في تلك الدقائق الحرجة بدٌ غير تعقيب منتسبيهم باتجاه العراق مشيا على الأقدام في حالات ليست قليلة.

(ثانيا). إن انقطاع الاتصالات، وارتباك منظومة تعبير الأوامر والمعلومات، وضعف وسائل الضبط والسيطرة جعلت بعض الوحدات خارج التبليغ الرسمي بالانسحاب، وَتُركت في مواضعها منسية حتى أَسَرها الحلفاء عند تحقيق التماس معها، وأخرى تلمسته من خلال الجنود والضباط الذين تخللوا في انسحابهم مواضعها، أو مــروا قريبا منها فحشرت نفسها في طريق الانسحاب بطريقة زادت من ارتباكهم ( ذكر في هذا الجانب المقدم صباح آمر كتيبة مدفعية تتمركز خلف المواضع الدفاعية للفرقة الخامسة،  أنه شاهد آلاف العسكريين ينسحبون باتجاه الحدود العراقية من خلال مواضع كتيبته بطريقة غير نظامية، استوقف بعضهم ليسأل عن طبيعة هذا العمل، فلم يحصل على إجابة واضحة سوى كلمة انسحاب تتردد على شفاه الجنود المنسحبين، فاعتقد أن ذلك هروب جماعي، فأصدر أوامره إلى منتسبي كتيبته بعدم التحرك من مواضعهم، لكنه وبعد دقائق من أمره الصادر تبادر له خروج جنوده من مواضعهم، والدخول مع صفوف المنسحبين، تاركين مدافعهم، وعندما حاول معالجة الموقف بطريقة الآمر المنضبط، لم يجد من يسمعه سوى مراسله الذي كتب عليه تقرير حزبي بعد انتهاء المعركة متهما إياه بالاستهزاء من أمر القائد العام بالانسحاب، فحكم عليه بعد عام 1992 بالسجن لمدة خمسة عشر عاما).

(ثالثا). كانت سبل الانسحاب ورغم سعة الصحراء المستوية قد تركزت على طريقين رئيسين:

الأول: طريق الكويت ـ المطلاع ـ صفوان ـ البصرة.

الثاني: الكويت ـ أم قصر ـ الفاو ـ البصرة.

وهذا جعل من المنسحبين هدفا سهلا لطائرات الحلفاء السمتية التي دمرت فيه كثير من الآليات التي استطاعت وحداتها سحبها من المواضع بطريقة نظامية، وجعل الطريق مقبرة لآلاف الآليــــات العسكرية العراقية، وكذلك لجثث الشهداء، وجعله مشهدا للحزن الشديد قضى على ما تبقى من طاقة نفسية مهدت للانهيار.

(رابعا). إن الانسحاب على ذات السبل، وبنفس الاتجاه جعلت الطرق تزدحم بالمنسحبين، وكذلك المدن مثل الزبير والبصرة، ونقاط العبور من على الجسور وإلى ضفاف الأنهر الثانية، وهذا التكدس أوجد تداخلا بين المنسحبين من وحدات متعددة وصنوف مختلفة، ونقل عدوى اليأس والاستهزاء من القيادة بين عموم المراتب المنسحبين، وشكل وضعا معنويا متدنيا أو ما يمكن تسميته بالانهيار.

(2). فقدان السيطرة 

كانت معالم القيادة والسيطرة قد تصدعت في مراحل ما قبل الانسحاب لأسباب تم ذكرها في أعلاه، وانتهت أو تعطلت تماما خلال مرحلة الانسحاب، لرغبة غالبية الجنود التخلص من ضغوط الحرب والالتزام التي بقوا تحت وطأتها طيلة فترة الأشهر الخمسة الماضية أي التحرر منها، ولأسباب فنية ساعدتهم على سلوك الفوضى في أدق مرحلة من مراحل الحرب منها:

(أولا). عدم القدرة على تأمين الاتصال لا سلكيا مع بداية ترك الموضع الدفاعي، لتعطل بعض الأجهزة اللاسلكية، ولترك أخرى في المواضع الدفاعية، ولفاعلية التشويش والحرب الإلكترونية للحلفاء، ولخشية الآمرين من استخدام ما تبقى بعد أن أصبحت هدفا سهلا لطائرات الحلفاء.

(ثانيا). التغير السريع بالموقف القتالي نحو الأسوأ أربك القيادة العامة للقوات المسلحة التي أخذت على عاتقها تحديد أماكن تجمع القيادات المنسحبة، وأربك القيادات الميدانية التي وجدت في بعض الأحيان أن قطعات الحلفاء قد سبقتهم إلى تلك المواقع المؤشرة أو أنهم مرغمون لتركها لاعتبارات الأمن الداخلي التي بدأت مؤشراته غير مشجعة بالنسبة للقيادة المذكورة.

(ثالثا). قطع الجسور، واقتصار العبور على وسائل محدودة كَدَسَ عديد من الجنود في أماكن معينة مثل ضفتي شط العرب، وتسبب في ازدياد عدوانيتهم وميلهم للتمرد ضد القيادة والحكومة التي مثلت سبب المأساة، فكانت أوضاعهم تعبر عمليا عن حالة الانهيار.

(رابعا). تدمير الآليات العسكرية، وعدم وجود سيارات وشاحنات، وتوقف القطارات لنقل آلاف الجنود والضباط إلى مدنهم ومقرات وحداتهم الدائمة جعلهم يتنقلون على أقدامهم لمسافات بعيدة، في أجواء القصف، وكثرة الخسائر على الطرق، وضعف المعنويات، أدى إلى انهيار أسس الضبط وعدم الالتزام بالأوامر الصادرة من قبل بعض القيادات، والوحدات التي استطاعت المحافظة على كيانها رغم قسوة تلك الظروف، عندها عمت حالة الانهيار.

(3). الخسائر  

تعرض الجيش العراقي لإصابات مختلفة في حربه مع إيران قدرها البعض بما يزيد على المليون إصابة، لكنه تعامل معها بطريقة استطاع السيطرة عليها لامتداد وقوعها على فترات مختلفة، ولمسافة زمنية بلغت الثماني سنوات، لكنها وفي حرب الخليج الثانية كانت كارثة حقيقية لأسباب بينها:    

(أولا). وقوع الخسائر في أيام معدودات، وفي ظروف تفوقْ الحلفاء بشكل مطلق، حال دون إمكانية تنظيم الإخلاء. 

(ثانيا). نقص عجلات الإسعاف أصلا، وتدمير بعضها، وعطل البعض في الطرق، وعدم تيسر الوقود لبعضها الآخر، حدَّ كثيرا من إمكانية إخلاء الجرحى.

(ثالثا). كانت الخسائر تفوق كثيرا قدرة المفارز الطبية في الوحدات، وكذلك وحدات الميدان الطبية والمراكز الصحية الميدانية على استيعاب الإصابات وإخلائها، الأمر الذي حتم ترك البعض منهم قسرا في ساحة المعركة، وعلى طرق الانسحاب.

(رابعا). تعرض الكادر الطبي الميداني لنفس فوضى الانسحاب وهلع المعركة، كأحد الصنوف القريبة من أوارها المشتعلة، وهذا جعلهم يتركون مقراتهم مثل غيرهم من الصنوف، وينجون بأرواحهم كما جرى بالنسبة لغيرهم، وفي ظروف كهذه، يصعب أن يتذكروا جرحاهم الذين تُرك البعض منهم راقدين في مراكز صحية داخل مدينة الكويت.

(خامسا).عدم استيعاب نقاط جمع الخسائر لأعداد الشهداء التي تتزايد بوتائر كبيرة، مع قلة الثلاجات المتخصصة لحفظ جثثهم، وانقطاع التيار الكهربائي، تسبب في أن يترك البعض منهم خارج الثلاجات وفي الممرات، ومن بعدها خارج النقاط والمراكز بطريقة تثير البؤس والاشمئزاز.

(سادسا). انتشار وقع الخسائر وكثرتها على طرق ممتدة طويلا، ومزدحمة، وغير مسيطر عليها من وحدات الانضباط العسكري، وفقدان الاتصال بالمقرات، وتعب الزملاء وعدم قدرتهم على تقديم العون الأخلاقي، تسبب في بقاء الجرحى ينزفون في أماكن إصاباتهم حتى الاستشهاد، وتسبب في بقاء الجثث عرضة للتعفن، ونهش الحيوانات في صورة يصعب استيعابها، وإن كان الظرف قاسيا.

( مسألة بين صورتها الواقعية رجل مسن راجع المركز النفسي المتقدم مساء يوم 27 شباط طالبا التدخل لدفن أو إخلاء شهداء قصفت طائرات الحلفاء عجلتهم على طريق التنومة، وبقيت جثثهم داخلها من يوم أمس، حتى باتت عرضة لنهش الكلاب السائبة دون إمكانية أهل القرية لتقديم حل لوضعهم بسبب خشيتهم من التعرض إلى المسائلة في حالة دفنهم، وكذلك بسبب خشيتهم من انقطاع وصلهم عن ذويهم، ووحداتهم لعدم التعرف على هوياتهم، وقد نقلت تفاصيل هذه الواقعة وأخرى غيرها إلى القيادة العامة في نفس اليوم، لكنها لم تستطع تقديم حلا آنيا وهي في وضعها المضطرب وحدود حركتها المقيدة، الأمر الذي دفع الأهالي إلى دفنهم ووضع علامات على قبورهم أملا في أن يتذكرهم الجيش بعد أن يتخلص من محنته).

(سابعا). قلة وسائط النقل التي يمكن استئجارها لنقل الشهداء بسبب نقص الوقود، وتعقيدات التنقل على الطرق العامة التي باتت غير آمنة، وكذلك شحة التوابيت المخصصة لهم تسبب في تكديس جثث الشهداء وزيادة تعقيدات الإخلاء.

إن وضع الشهداء الذي باتت جثثهم متناثرة على الطرق وبين أروقة مراكز الإخلاء والأرصفة المحاذية لأسيجتها الخارجية، ورائحة الموت المنبعثة منها، ودماء الجرحى التي تسيل على طول طرق الانسحاب، كونت في ذاكرة العسكر العراقي أفكارا أبعدتهم كثيرا عن الالتزام بعسكريتهم وبأهداف قادتهم، وشعارات حزبهم، واستثارت في داخلهم سلوك التمرد والفوضى وعدم الالتزام.

د. المرحلة الرابعة: الانهيار ومعطيات التمرد والانتفاض 

أولا. جنود يسيرون فرادا، وجماعات على الطرق، وبين شوارع البصرة لم يحاولوا أخذ قسط من الراحة والتوقف عن المسير.

وضباط تعطلت سياراتهم وتركهم جنودهم ومراسليهم وحماياتهم الخاصة وسط الطريق، فلم يجدوا أمامهم سوى التزاحم مع جنود من غير وحداتهم خجلا من طبيعة المسير.

وزملاء لهم تورمت أرجلهم من طول المسافة سيرا دون توقف، فخلعوا أحذيتهم التي ضاقت عليهم وعاودوا المسير.

جنودٌ ملئوا شوارع البصرة وأزقتها، يتكلمون علنا عن خذلان قيادتهم، وعن تقصير آمريهم، وعن نقمة ضم الكويت لعراقهم، فلم يجدوا من يجيب عليهم أو حتى يعتقلهم كما كان جاريا قبل انسحابهم، ففكروا أن خير وسيلة لمقارعة العدو والحكومة هو الإصرار على المسير.

جنودٌ وقفوا أمام مطاعم البصرة، ولم تكن في جيوبهم نقودا تكفي لوجبة طعام بسيط، فلم يجدوا غير بيع بنادقهم ولو بدينار يؤمن لهم وجبة غذاء تعينهم على مواصلة المسير.

زملاء لهم وقفوا أمام تماثيل أقامتها القيادة على ضفة شط العرب لضباط قتلوا في الحرب مع إيران وأياديهم ممدودة باتجاهها، وهم يفكرون بإمكانية أن تقيم الحكومة البعثية تماثيل لزملائهم الذين قتلوا في هذه الحرب وأيديهم تؤشر باتجاه السعودية والكويت وربما تركيا، فلم يحصلوا على إجابة مقنعة سوى الرغبة في المسير.

وآخرين وجدوا أن الوقت ثقيلا، ووسائل العبور العسكرية لشط العرب كافية فقط للقادة وضباط الحرس الجمهوري، فقرروا مساومة أصحاب القوارب الصغيرة على بنادقهم ومسدساتهم ثمنا يدفعونه لقاء العبور إلى الضفة الأخرى ومعاودة المسير.

آلاف غيرهم أعياهم الظرف الصعب، وأوهن حالهم التعب والجوع والعطش، وعدم تيسر وسائط النقل، فتفرقوا بين مباني البصرة غير المكتملة والمهدمة، وعلى جوامعها وكنائسها، وعلى أرصفة شوارعها الموحلة قرروا أن يتركوا الأمر للقدر ويتوقفوا عن المسير.

كل ذلك يجري والقيادة العامة لا تفعل شيئا أو بالأحرى لا تستطيع أن تفعل شيئا وإن أرادت فعله في تلك الظروف الصعبة على الرغم من تنبيهها إلى ذلك ولو بشكل غير مباشر.

(كان آخر تقييم للحالة المعنوية والنفسية للجيش بعد الانسحاب، وفي مناقشة مع الفريق الركن سعدي الجبوري وزير الدفاع، والفريق الركن حسين رشيد رئيس أركان الجيش، تم التنويه إلى أحتمالات حدوث اضطرابات بسبب الوضع المتدهور للعسكر في مدينة البصرة، والمستمرين في المشي إلى بغداد والمحافضات العراقية، وفي حينه رد رئيس الأركان على المناقشين وبانفعال غير معهود منه: إن ما تقولونه غير عملي، وإن كان كذلك فلم يعد في أيدينا شيء نعمله، وكان الأجدر بكم إعلامنا بالذي يمكن عمله ونحن في مثل هذه الظروف الصعبة!). 

ثانيا. تلك كانت بعض الوقائع الفعلية لحالة العسكر المنسحبين إلى البصرة، منطقة التحشد الرئيسية لحرب الخليج الثانية، وعقدة المواصلات التي تؤدي إلى بغداد وباقي محافظات العراق الأخرى، وضعٌ مأساوي، وصورة بائسة أدت إلى انهيار تتمثل وقائعه بالآتي:

(1). فقدان شبه كامل للقيادة والسيطرة لغالبية وحدات وقيادات الجيش العراقي باستثناء وحدات الحرس الجمهوري التي حافظت على تماسكها لعدم زجها بمعركة الهجوم المقابل كما كان مخطط لها، ولتجهيزها الجيد وتدريبها الجيد بالمقارنة مع باقي وحدات الجيش، وعدم تعرضها لاضطرابات الموضع الدفاعي، وربما لإبقائها فاعلة للتعامل مع الانتفاضة وظروف العراق ما بعد المعركة كما يعتقد البعض وحجتهم في ذلك أن قوات الحلفاء كانت قد وصلت حافات الهور من جهة الناصرية، وكذلك السماوة في محور آخر، وقطعت غالبية الجسور والمعابر الموجودة على طريق البصرة ـ العمارة، وكانت طائراتها تدمر أية عجلة عسكرية تتنقل على تلك الطرق، فعدَّت والحالة هذه غالبية وحدات الحرس الجمهوري الآلية والمدرعة في المنطقة محاصرة بالحسابات التعبوية، لكنها وقبل حدوث الانتفاضة تبين إن غالبيتها انسحبت على شكل أرتال تنقل عادي على طريق واحد سالك في الهور لتصل إلى بغداد وضواحيها في وقت قياسي وفي ظروف غير اعتيادية، وهذا وضع أثارَ كثير من علامات الاستفهام التي تعززت بسماح الحلفاء للقيادة العراقية باستخدام الطائرات السمتية بحجة التنقل، وهي التي تعي جيدا طبيعة تسليحها، وكذلك باستخدام الصواريخ التي لا تزيد مدياتها عن (150) كم.

(2). كسر الحاجز النفسي للخوف من السلطة الذي رافق العسكريين طيلة أكثر من عشرين سنة، حيث وجدوا وبشكل مفاجئ أن قوة السلطة الممثلة بالحزبيين والأمن والاستخبارات قد تلاشت، ولم يعد ما تبقى من ممثليها قادر على إضهار نفسه خشية الانتقام، كما إن قوة الحاكم قد اختفت هي الأخرى حيث لم يعد له وجود ظاهر في أجهزة الإعلام المحلية غير الموجودة فعليا، وهذا مع عوامل فقدان السيطرة وكم الحقد والبغض الموجود ضد الحاكم والحزب في نفوس العسكريين، دفع البعض من الجنود وبشكل فردي إلى التجاوز العلني على رموز قوة الحاكم والحكومة مثلما فعل سائق الدبابة الذي وجه مدفع دبابته على جدارية تحمل صورة صدام في ساحة سعد ليهدمها بقدر الهدم النفسي الذي تعرض له خلال أشهر الحرب مع الحلفاء، وهذه مع أفعال أخرى للجنود في المدن التي دخلوها وعلى الطرقات، وتندرهم على السلطة وهم في حالة الإعياء دفع الشارع إلى التعاطف معهم، والتوحد مع معاناتهم فانطلقت أولى علامات الانتفاضة من الحيانية في البصرة بحدود الساعة 800 يوم 1/3/1991 لنساء يحملن عصي، ورجال آخرين هجموا على مراكز الحزب والشرطة.

أعمال سرعان ما تلقفها الشباب ودخلها القليل من العسكريين (بشكل فردي) وزاد من اتساعها رجال الأهوار وأبناء العشائر، ليسجلوا في تاريخ العراق أضخم انتفاضة ضد أعتى حاكم امتدت لتشمل أربعة عشر محافظة.          

(3). كان العسكريون مشحونون بانفعالات العدوان ضد الحلفاء والأمريكان طيلة الفترة التي سبقت بدء القصف الجوي والهجوم البري، وأهداف إخراجها كانت موجهة ضدهم لزيادة دافعيتهم في المقاومة والقتال، وعندما بدأت المنازلة الفعلية تبين استحالة توجيهها بشكل فعال ضد أولئك الحلفاء، وفي طريق العودة وظروف الانكسار وغياب أدوات القوة للسلطة، والوضع النفسي غير المستقر "الهياج النفسي" تحولت اتجاهات العدوان في النفس العراقية من الحلفاء والأمريكان كرموز لتصريف العدوان إلى الحكومة العراقية والحاكم كمسبب لذاك العدوان، وبدأت خطوات التصريف بهذا الاتجاه:

نقد لخططه العسكرية.

تجاوز على أوامره الصادرة.

استهزاء بمواقفه السياسية.

تطورت لتكون سب علني وشتم بأعلى الأصوات، لتزداد شدتها أفعال ضد رموز الحكومة، ومن بعدها انتفاضة شعبية عارمة، صحيح لم يشترك في أحداثها الجيش العراقي كوحدات وقيادات (عدا قليل من الضباط بكافة الرتب، وضباط صف، وجنود بصفتهم الشخصية)، لكن الجيش مع بدايات حدوثها يمكن القول أنه وقف مباركا لها، ومتفرجا على أحداثها، وتطورها حتى استعادة صدام عافيته لتكون بعض وحداته مع الحزب والحرس الجمهوري أداة لوأدها.

(4). إن من علامات الانهيار والتجاوز على الأعراف والمعايير العسكرية هي صيغة تعامل العسكر مع أسلحتهم ومعداتهم، إذ وبعد أن استلموا إذن بتدميرها عند عدم القدرة على سحبها تكونت لديهم مبررات للتخلص منها تضاعفت شدتها في طريق الانسحاب عندما أصبحت عبئا على كاهلهم تعوق أحيانا الانسحاب، زاد الحلفاء وتائرها عندما بدأ طياروهم يتقربون نحو البعض منها ليعطوا إلى القائمين عليها أو الذين يركبونها إشارات تركها، ليحوموا حولها ثم يقوموا بتدميرها حتى سرت شائعات تضخمت كثيرا في عقول المنسحبين من أن الأمريكان يستهدفون فقط تلك الأسلحة والمعدات وحتى الآليات، فزادت عندها وتائر ترك تلك المعدات، بل ولجأ البعض أحيانا إلى تعطيلها أو حرقها تفاديا لاحتمالات اتهامه بتعمد تركها إذا ما استعاد الجيش عافيته، وامتد هذا الأسلوب في التعامل من أنواع الأسلحة والمعدات الثقيلة إلى الأسلحة الشخصية التي بيع آلاف القطع منها بأثمان رمزية، فكانت ظاهرة شكلت مع غيرها ماهية التردي والانهيار.

ثاثا. وصل منتسبو أربعة فيالق، وقيادة قوات الخليج التي كانت مكلفة بالدفاع عن الكويت وحدود العراق الجنوبية أو غالبيتهم إلى بيوتهم مشيا على الأقدام، قطع بعضهم خلالها مسافة من مدينة الكويت حتى بغداد، وتفرق الضباط إلى بيوتهم، وكذلك بعض القادة والآمرين، وبدأت أحداث الانتفاضة تنتشر سريعا من مكان لآخر متجهة نحو بغداد، وتحرك الأكراد والتركمان في شمال العراق ليصيبوا الفيلقين الثاني والخامس بنفس الحال، وسقطت محافظات الشمال أسوة بجنوب الوسط والجنوب، وكان العسكر مشغولون بتضميد الجراح التي استمر نزيفها دما حتى وصول البيت.

واستمر نزيفها مشاعر بؤس وشقاء، وشعور بالذل والمهانة حتى دخول البيت.

عندها انشغلوا برد الأنفاس وتضميد ما تبقى من الجراح، والتخفيف من المعاناة.

خلد غالبيتهم إلى الراحة في سبات عميق، تبلدت خلاله المشاعر الوطنية، وتعطلت خلاله الأحاسيس بثقل الهزيمة، وقُيدتْ المدارك، إلا ما يتعلق منها بالاتساق في البت الذي عوضهم عن الوطن الذي تخرب في أيام معدودات، فكانت نتائج ذلك حياد الجيش بين شعبه، والحكومة في مراحل الانتفاضة الأولى سرعان ما تبدد هذا الحياد بعد أن تبددت تلك المشاعر، وضُمدت تلك الجراح، وعاودت أنياب السلطة ظهورها ومعالم القوة استعراضها، فتغير الحياد إلى انحياز واضح المعالم، وتغيرت معاني الهزيمة أمام الحلفاء إلى نصر على الأهل البؤساء.

وتجمع العسكر من بيوتهم، وأعيد تسليحهم من مخازن لا ينضب خزينها ليكون بعضهم أدوات قمع قاسية.

 وبفعلته هذه فوت الجيش العراقي فرصة للتغيير تمحو عنه وطأة الشعور بالخسارة في حرب لم يكن له فيها دور إلا الموت دفاعا عن الظلم.


الخاتمـــة       

1. تأسس الجيش العراقي بطريقة لم تكن اعتيادية وفي ظروف هي الأخرى غير اعتيادية، إذ أن صيغ تشكيله كانت في بعض جوانبها:

أ. بديلا عن الإنجليز في تنفيذ مهام لا يريدون هم تنفيذها سواء بقصد تفادي خسائر مادية وبشرية أو لتجنب اتهامهم بارتكاب أفعال ضد الشعب العراقي ومشاعره الوطنية، قد تسبب لهم مشاكل في السيطرة على البلد كما حصل لهم في التعامل مع عشائر العراق الجنوبية ومراجعها الدينية في ثورة العشرين.

ب. تنظيم لوحدات وقيادات قادرة على التعامل مع الشؤون الداخلية أكثر منه للدفاع عن الوطن وحدوده الخارجية، وكذلك كان تسليحه وأساليب تدريبه.

ج. تحديد شكل قيادته طائفيا لتنسجم مع طائفية الحكومة، وتكون بيدها مرنة للتعامل مع أحداث داخلية يفترض أن تأتي من وسط العراق وجنوبه، ومن أكراده في الشمال، وغالبية العراقيين من غير الطائفة الحاكمة تركوا عمدا خارج أروقة السلطة أو همشوا مواطنين درجة ثانية في بعض المراحل الزمنية وفي وقت الأزمات على وجه التحديد.

2. إن تشكيلة الجيش العراقي بالصيغ المذكورة لم تجعله محايدا بالمعنى الدقيق بين حكومات  توالت على العراق منذ الملكية الدستورية التي لم تنجح حكوماتها لأسباب تتعلق أغلبها بظروف التأسيس والاحتلال من إقامة دولة العراق الموحد ديمقراطيا فاستخدمته "أي الجيش" في ضرب العشائر الجنوبية تارة والكردية تارة أخرى، فأسست بعملها هذا سابقة سحبته لاستخدامات متعددة من هذا النوع في الحكومات الجمهورية، وبأساليب أكثر تطرفا تعود في بعض جوانبها إلى الوهم الذي أصاب الثوريين بأحقيتهم في الدفاع عن مبادئهم، وأهداف ثورتهم في إطار الشرعية الثورية، وأبقته أداة للحكومات الجمهورية أكثر طواعية من دولة الملكية، لأن العسكر قادة الجيش وضباطه الكبار أصبحوا حكام البلد وقادته الشرعيين، فزرعوا من يومها بذرة لاستخدامه في تخريب نفسه، والمجتمع العراقي التي غذاها البعثيون العراقيون:

من فكرهم القومي عنصرية وجهت قادته في أن يضربوا الأكراد في الشمال بأسلحة كيماوية دون التفكير بعراقيتهم.

ومن عقيدتهم الثورية طائفية دفعت قادته إلى ضرب المراقد الدينية المقدسة بقذائف الدبابات، وقصف مدن العراق بالصواريخ، وسحق المدنيين في الوسط والجنوب دون التفكير بعروبتهم.

حتى بات الجيش وعلى وفق حركته هذه ومهامه غير الواضحة جهازا أمنيا مضافا لأجهزة الحكومة المتعددة، معنيا بحماية الحاكم والدفاع عنه والعائلة بطريقة حاول المذكور أن يجعله على أساسها مرتبطا بوجوده ومصيره ليحصل من قادته على ولاء مطلق، وميل لتنفيذ أوامره دون تردد.

3. إن الاستعراض المذكور لوضع الجيش العراقي منذ بدأ التأسيس، وحتى نكبته في حرب الخليج الثانية، وتقييم بعض توجهاته ومستويات أداءه، والظواهر التي انتشرت بين منتسبيه لا تعني أنها مطلقة يمكن تعميمها على كافة المنتسبين ولجميع الوحدات والقيادات، لأننا نلاحظ ورغم كل معالم الانهيار في الحرب على سبيل المثال:

أ. إن بعض الآمرين استطاعوا سحب وحداتهم والسيطرة عليها في ظروف قاسية، فكانوا مثالا للمهنية العسكرية والانضباط العالي.

ب. وإن آمرين من غير طائفة الشيعة، وضباط عديدين راوغوا كثيرا وعطلوا وحداتهم في الطريق إلى تدمير مدن الجنوب وسحق الانتفاضة، فاستحقوا الإشادة بعسكريتهم الوطنية.

ج. إن طيارين أسقطوا حمولة طائراتهم من الكيماوي خارج أهدافهم المحددة بعيدا عن سكان المدن الكردية، فكانوا عراقيين بالمعنى الوطني للعراقية. 

ج. ونلاحظ أن العكس من هذا قد حصل في مواقف كان الممثلين فيها ضباطا من أبناء الجنوب غالوا في استخدامهم لمبدأ التقية وأوقعوا ضربا في أبناء جلدتهم أكثر مما فعله الآخرون.

4. وهكذا عديد من الأمثلة التي تدفع إلى التأكيد على أن أسلوب التحليل المستخدم في عرض الوقائع والإشارة إلى بعض الأحداث جاء لمزيد من التفصيل الذي يعطي صورة أكثر وضوحا عن حجم الكارثة التي أصابت الجيش العراقي، وعن طبيعة دوره في رسم خارطة التدمير الذي تعرض لها العراق، وتدفع إلى الاستنتاج إلى أنه ورغم وجود مثل أولئك الضباط الوطنيين وضباط الصف والجنود النزيهين إلا أن وجودهم بات وكأنه الشذوذ عن القاعدة التي اتجهت غالبيتها نحو التخريب الذي مهد لحصول التدمير والانهيار، لأننا وببساطة يمكن القول:

أ. لو أن قادة الجيش العراقي كان لهم رأي مسموع، وتأثير فاعل في رسم الخطط، وتقادير الموقف إبان الحرب مع إيران، لتغيرت خارطة الحرب من حيث الوقت، والنتائج وربما في اتجاهات عدم الحدوث !.

ب. لو أن قادة الجيش أسمعوا تقديراتهم لحجم الكارثة إلى الحكومة بطرقهم العسكرية، وتوحدوا في رأيهم الخاص ببعض جوانبها لدفعوا صدام ولو بشكل غير مباشر على الانسحاب من الكويت وتجنب الأزمة !.

ج. لو أن قادة الفرق والفيالق وآمري التشكيلات والوحدات أو بعض منهم فكروا قليلا بمستقبل العراق، وما فعله صدام بالعراق، وكارثة التوقيع على وثيقة الاستسلام في صفوان ورهن مستقبل العراق، وتوحدوا في فعل وطني يدعم شباب الانتفاضة لساعدوا في تجاوز المحنة والكارثة، وساهموا في حماية أرض العراق !.

د. لو فكر القادة وعموم الضباط بالثمن الذي يدفعونه من أمنهم وحريتهم ومستقبل أولادهم وبلدهم في بقائهم مع صدام ومساعدته على الظلم ، وبما يجنونه من حرية، واستقرار وتقدير العراقيين ورضا الخالق لما بقوا متفرجين عدة أيام حرجة مع بدايات الانتفاضة عندما كان تدخلهم قريب من إنقاذ العراق وإنهاء الأزمة !.

5. كل تلك الافتراضات التي تقترب بعض التصورات فيها من المثالية في حال العراق الذي زرع في نفوس أهله الهلع عسكرا ومدنيين حد الخوف من الزوجة في كتابة تقرير عن الزوج رفيق العمر، وحد التوجس من صديق قد يفشي سر انتقاد صديقه للحكومة، وحد التجنب المقصود للتكلم مع الأولاد في المجالس الخاصة خشية أن ينقلوا الصورة مشوهة إلى مدرسيهم والرفاق الحزبيين، وحد البقاء قلقا دون الاستسلام للنوم بعد سماع نكتة سياسية في غرفة النوم، وحد تجسس المراسل على الضابط، والمساعد على آمره، وآمر الحضيرة على عريفه، وحد ترك ضابط الاستخبارات مهامه في جمع المعلومات عن أنشطة عدوه وتحويل جهده لمتابعة تحركات قائده ..... الخ من متغيرات تجعل النظر إلى موضوع الجيش العراقي ووضعه في تلك الحقبة الزمنية ومستقبله أكثر تعقيدا .

لكنه تعقيد من الناحية العلمية لا يمكن الاستسلام لتحديداته في حالة الجيش العراقي ووضعه، لأن العلم بطبيعته يفتح المجال واسعا للبحث في سبل إعادة بناءه عراقيا يبعده عن التحيز والتدخل في الأزمات الداخلية، ويساعد العلم تحديد أهدافه في عقيدة عسكرية واضحة المعالم تجعله جيشا وطنيا مختصا بالدفاع عن الحدود وتعزيز الأمن الخارجي للدولة، ويدفع التفكير العلمي إعادة النظر في تدريبه واختيار ضباطه وتوزيع مناصبه عراقيا بعيدا عن الطائفية والعنصرية والمناطقية التي مهدت لتدمير بنيته العسكرية. وتلك نوايا ومقاصد يصعب أن تتحقق إلا في ضل نظام حكم ديمقراطي تعددي للعراق الموحد.      

        

المصادر                                                                         

1 . جعفر عبد الرزاق ، الجيش العراقي نظرة فـــــي التأسيـس عام 1921، دراسات عراقية، العددان الثاني عشر ـ الثالث عشر، آذار  2000.

2 . الحسني، عبد الرزاق ( ب . ت ) تاريخ العراق السياسي الحديث ، بغداد .

3 . عقيل يوسف ، المؤسســـة العسـكرية والدولة ... بين التاريخ والحاضر، العددان الثاني عشر ـ الثالث عشر، آذار 2000.

4 . ع . ر أحمد الزيدي ( 1993 ) أزمة القيادة في العراق ، دار الرافد ، لنــدن

Y BELL ( 1947 )  (5 . THE LETTER OF GERTRUDE BELL) . LONDON                                                                              

6 . مؤسسـة الدراسـات الإسلامية ( 1411هـ ) العراق بين الماضي والحاضر والمستقبل، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت.

7 . النصراوي ، عباس ( 1992 ) الاقتصاد العراقي بعد حرب الخليج. 

8 . الجنرال جان بيريه ( ب . ت ) الذكاء والقيم المعنوية.

9 . مديرية البحوث والخدمات النفسية ( 1988) العمل النفسي الميداني، بغداد.

10 . تقارير الحالة المعنوية للمركز النفسي المتقدم، البصرة، 1991 ، غير منشورة.

11. دائرة التوجيه الياسي، تقرير حول جريمة الهروب، 1987 غير منشور.


قدم البحث إلى مؤتمر عن حقوق الإنسان، لندن كانون الثاني 2000