التأسلم في العراق وأثره على حالة التوتر والاستقرار

عـــام

جاءت الأديان كل الأديان لتشكيل السلوك الانساني، سلوكا سويا، وضبطه إنفعاليا، بإتجاه الطمأنة والاستقرار، واستخدمت جميعها لهذا الغرض، الثواب "الجنة" والعقاب"النار" في الضبط والتشكيل، وأُستغلت جميعها كذلك من قبل الإنسان، أو البعض من بني البشر لأغراضهم الخاصة، أو أن الاستغلال جاء عرضا ونتيجة جانبية لأفكارهم وأجتهاداتهم الخاصة، فنشأت مذاهب، وتكونت جماعات، وتشكلت أنواع صراع داخل الدين الواحد والمذهب الواحد، نَفذَ من خلالها في بعض الأحيان، إنسان من نوع خاص في داخله خوف شديد من العقاب أو خوف شديد من شيئ مجهول "قلق" دفعه إلى المبالغة "التطرف في التطبيق"، واسهم في حرف الدين عن تسامحه المعهود، ونَفذَ آخر من نفس النوع في داخله فسحة عداء لذاته أو للآخرين دفعته إلى الدعوة بالإيغال في إستخدام القسر والقوة للإصلاح، ودفعته في ذات الوقت إلى أستثمار كل جهده وقوته للوصول إلى مركز في السلطة الدينية أو السياسية الدنيوية، يخدمه في تطبيق أفكاره العدائية في الإصلاح والتقويم،  فأوجد أساسا لهذا النوع من التطرف في الاستخدام.

وهكذا هو الحال، وفي كل الأزمنة والأوقات وفي جميع الأديان.

يزداد البؤس في أحوالها، وتتضاعف المخاطر والأهوال، يوم يكثر النافذون غير الأسوياء، ومعهم كثير من الانتهازيين، يعبرون معا الجدار السوي للدين، أو ينفذون منه إلى عالم الدنيا المليئ بالأخطاء والتجاوزات في تلك الأوقات "الأزمات"، عندها يتكون نوع من التدين أو جيل من المتدينين لديهم الاستعداد للقيام بأي فعل يُشبع رغباتهم في الدنيا، بعيدا عن مفهوم الدين الصحيح للآخرة*.

هذا وعند النظر إلى الموضوع من الناحية النفسية البحتة نجد أن الأديان السماوية التي نادت بالتسامح والاعتدال، وحذرت من العقاب سبيلا لإطفاء غير السواء، وأستمرت على هذا الحال منذ النشأة الأولى، حتى يومنا هذا، وجدت منطقيا أن إنسانها الذي أرادت الأديان تدجين سلوكه ضمن حدود السواء، لم يتدجن بالمطلق، لأن في التركيبة النفسية لبعضه شذوذا أو أبتعادا مرضيا عن السواء، لا يمكن تدجينه أو إصلاحه بوسائل الدين، وهم نسب يكاد يكون وجودها متقاربا في كل المجتمعات، وفي جميع الأديان، ورغم ذلك فإن أخطار وجودها في المعتاد محدودة، إلا إذا نفذت إلى الدين، لحل مشاكلها الانفعالية من خلال تطبيقاته الواسعة، وكونت ظاهرة تنتشر بين العوام.

لقد تكونت في العراق ظاهرة من النوع المذكور "التأسلم" تحاكي في طبيعة سلوك أصحابها التعصب، لا نقصد به العلاقة الايجابية بين الإنسان والخالق، ولا الإيمان بالشريعة أساسا للتعامل مع الحياة، وإنما النفاذ غير السوي إلى دائرة الدين، سبيلا لتحقيق الذات المتطرفة، غير السوية،  إذ بات واضحا في السنوات التي أعقبت التغيير، أن البعض غير القليل من العراقيين، ودون أساس فقهي، يتجهون في مواقفهم الحياتية وفي آرائهم السياسية، وفي تعاملاتهم الموقفية إلى إعطاء تفسير ديني ذو طبيعة متطرفة لكل فعل يصدر، وقول يقال، وبسبب تأسلمهم هذا أعتقدوا أنهم الأصوب من غيرهم في كل الأمور، وذهبوا أبعد من ذلك، إلى دفع الآخرين للأيمان بمعتقداتهم، والسير على نهجهم، وبعكسه يتهمونهم بالكفر أو الردة، ويتوعدونم سوء العقاب.

إن التمترس خلف الإعتقاد الفكري المطلق، أو التأسلم على هذا الأساس نهج تفكير، لا يقتصر وجوده على العراق ولا على مجتمعاتنا العربية، التي عانت أكثر من غيرها بسبب هذا الوجود، بل هو موجود في كل المجتمعات البشرية، وبنسب تكاد تكون متقاربة عند خطوط البداية لهذا الوجود، والفارق الوحيد في سعة أنتشاره بعد تلك الخطوط، وتأثيره على النفس المتطرفة ذاتها، وعلى الأخرين القريبين منها والبعيدين، بين هذا المجتمع وذاك، أو بين مجتمعاتنا المصابة بدائه المفرط، وتلك التي تجاوزته منذ عشرات السنين، يعود إلى طبيعة النظم والقوانين المدنية، وأساليب الإدارة، ومستوى التحضر:

عوامل تفاعلت فيما بينها فأكثرت من الأعتدال عندهم، وأبقت عندنا التطرف أضطراب حبيس نسبه التقريبية، عند خط البداية مع قليل من الاستثناء، أي إنها عوامل كان وجودها ضعيف عندنا، بقدر أضعف نتائج التفاعل التي سمحت بأنتشاره، بعيدا عن خط البداية، وجعلته خاصية تقترب من أن تكون عامة، بل ويقدس وجودها العديد من أبناء المجتمع ضحاياها المخدرون، وبسببها أنساق الكثيرون خلف شخصيات متأسلمة، جنود يطيعون ولا يناقشون، ينفذون، ولا يسألون، وأصبح لهم شأن، وقدرة على التاثير، إنسحبت أمامهم جموع المعتدلين، فتكونت ظاهرة الأسلمة، وزادت نسب الخلل والتأثير.   

إن التأسلم الذي نزع في مجاله البعض من العراقيين بدلة الزيتوني المقرونة بالحزبية البعثية وجيشها الشعبي، ولبسوا المحابس المشفوعة بالتدين، أو السراويل البيضاء القصيرة، وساروا بها في الشارع والزقاق، يمنعون، وينهرون، ويحذرون، وقليل من الأحيان ينصحون، بديلا عن الأب المتهم بالجهل في أمور الدين، ويقودون الجمهور بديلا عن السياسي المتهم بالتقصير، ويفرضون رأيهم على طالب الجامعة والأستاذ، قسرا لأنهم بذلك مخولون، يؤكدون في المكان الذي فيه يتواجدون، أنهم سلطة ألهية بديلة عن سلطة الدولة التي لا تراعي أمور الدين، ويعممون معتقداتهم وأفكارهم بالترهيب وقوة السلاح، وكأنهم مصابون بحواز الزمن لا يستطيعون الاحتكام إلى منطق الحراك الاجتماعي والتطور الذي سارت عليه البشرية منذ تكوينها وحتى الآن. والأخطر من كل هذا وذاك أنهم توجهوا إلى قيادة الجمهور المنفعل، أو أولئك الذين تركوا فدائيو صدام يوم 9/4 وقبلها بقليل، وغيروا من إتجاهاتهم ليكونوا جنودا في المليشيات المتأسلمة ضد الدولة، وأمتهنوا القتل سبيلا لمقاومة بنائها الديمقراطي، وحلوا في ممارستهم للعقاب محل القاضي المخول قانونا، وليقتنعوا في هذا الاحلال، نَصّبوا من بينهم قاضيا شرعيا، يحكم جلدا، ويقتل خنقا، لا وجود في أحكامه للبراءة لأنها في العقل أصلا غير موجودة بسبب الإصابة بداء التطرف الاضطهادي.  

إن التأسلم في حالتنا هذه، أقترب من خط اللاسواء، بل هو اللاسواء، لأن صاحبه في هذه الحالة يكون في حالة عيش تحت ضغط الأفكار التسلطية، التي يحاول التخلص منها بتوزيعها على الآخرين، لكنه وبعد قليل يجد أنها قد تجددت، بدرجة تدفعه الى القلق المستمر، فيزيد من تدخله في شئون الغير، وإرغامهم على فعل الصح الذي يعتقده هو صحيح، ويفسره تفسيرا، يعتقد أنه تفسير في صلب الدين الاسلامي الحنيف.

إن التأسلم، لا يشكل مشكلة، إذا ما بقي فرديا أو إذا ما أدرك المجتمع طبيعته وطوقه بالتوعية والتثقيف، لكنه سيكون كذلك عندما يجتمع المتطرفون في جماعات منظمة سياسية كانت أو دينية، تحت ضغط التفتيش النفسي اللاشعوري عن وسائل لتصريف خوفهم والقلق المجهول، فيكّونون عندها مجتمع:

جاذب لأمثالهم من المتطرفين.

مثير لتطرف المقابلين لهم في السياسة أو في الدين.

ولنا في هذا أمثلة قريبة من الواقع العراقي والفلسطيني، إذ شاهدنا في العراق كيف أن القاعدة المحسوبة على المتأسلمين السنة قد أجتذبت إلى دائرتها، العديد من السنة المتأسلمين في العراق، ونفذت الكثير من أعمال القتل والخطف والتهجير، بطريقة مَرَضيّة كانت كافية لإثارة المتأسلمين في الجانب الشيعي المقابل، اللذين تكتل بعضهم بجماعات تعاملت مع الجانب المقابل بنفس الطريقة، فبات الحال لا يفسر من الناحية النفسية والاجتماعية إلا تأسلما ينتج آخر، قد يفوقه في بعض جوانب التأثير.

وكذلك الحال في غزة الفلسطينية التي عرفت إدارتها الحمساوية بالتطرف "التأسلم" الرأي والاعتقاد واسلوب التعامل مع بعض مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، واستمر كذلك حتى أثار آخرين هم أيضا متأسلمين بل أكثر أسلمة، فكان تنظيم جند أنصار الله، وسيوف الحق التي ظهرت لتقاتل حماس، بطريقة لا تفسر نفسيا إلا من باب يبين أن التأسلم الذي جرى في القطاع قد آثار تأسلما آخرا، زاد عنه في الشدة وأختلف في الاتجاه.

وعلى هذا الأساس يعد التأسلم، تطرفا، غير سويا، وآفة إجتماعية لابد من إجتثاثها في مجتمعاتنا الشرقية، وإلا ستزيد من الفوضى وعدم الاستقرار..... إجتثاثٌ سيكون فاعلا عندما يأتي من بين المجتمع، ويتأسس على قيمه المعتدلة.

 

التأسلم السياسي

في العراق أمتزج التأسلم الديني بالسياسي، أو في حالة التأسلم أمتزجت أعمال السياسة بالدين، في محاولة حثيثة لتحقيق أهداف سياسية دنيوية عن طريق الدين، فكّون هذا الامتزاج تعصبا إسلاميا "مذهبيا" سياسيا أكتسب مشروعه صفة التشريع وبعض أصحابه التبجيل، والعظمة ..... صفات عندما تكون في مجتمع يمر بفترة نكوص حضاري مثل الذي يمر على العراق، سيكون من السهل وجود من يضحي من أجلها، فكانوا في واقع الحال كثيرون، وكان دفعهم إلى ساحة الاضطراب سهل ورخيص الثمن، وفي حالتها خاصة في السنوات الأربع الأولى التي أعقبت التغيير، يمكن الإشارة إلى أن المجتمع العراقي قد أصيب بعضه بهذيان التأسلم بعد أن:

1. تجاوز المتأسلمون المتطرفون حدود الحياة النفسية الطبيعية.

2. تحولت إستجاباتهم في الظروف العادية والقريبة من العادية إلى أستجابات إنفعالية تعصبية.

3. تحول حماسهم إلى حماس غير عقلاني.

4. تغيرت معالم الشخصية عند العديد منهم، بحيث سيطرت على ذواتهم قناعات راسخة، لا تتزعزع، وبصورة كادت أن تكون شبه مستمرة، بإتجاه الادعاء بالحق المطلق، وعدم التنازل عن وجوده.

إن هذا الموضوع، أي التأسلم السياسي، قد أمتد إلى بعض الأحزاب السياسية التي أتجه قادتها إلى التعامل مع الجمهور العراقي إعتقادا منهم بأحقية التمثيل، وبجماهيريتهم في ساحة العمل السياسي القائم على التمثيل، ويسعون في توجههم هذا إلى أسـتخدام شتى الوسائل

التي يسمح بها القانون لتحقيق ذلك، وهي بطبيعة الحال متعددة، بينها الرموز الدينية التي حَرّمتْ غالبية الدساتير المشرعة في الدول الديمقراطية أستخدامها ليس لفرط حساسيتها في إثارة مشاعر الغير من الطوائف والأقوام فقط، بل وبسسب المعايير القيمية الرفيعة لحماية الرموز الدينية من حيل السياسة وأخطائها المتكررة، ولنا في العراق الديمقراطي الحديث أمثلة كثيرة في الأنتخابات التي جرت نهاية عام 2005 والتي تسابقت فيها أحزاب دينية عديدة للإيحاء بعلاقتها الفقهية بهذا الرمز "المرجع الديني" أو بذاك، وبتقليدها له والسير على نهجه في التشريع وأمور الحياة، وهذه مساع لو جاز لنا تحليل نتائجها في إطار السلب والإيجاب على العملية السياسية وعلى الجمهور الناخب والأهم منهما على الرمز الديني شخصيا، نجد وببساطة أن فوز أحد الأحزاب في أستخدام الرمز الديني (أ) على سبيل المثال سيدفع الحزب الآخر من نفس الطائفة إلى التوجه لأستخدام الرمز (ب) وهكذا إلى الثالث، والرابع حتى تُجر العملية السياسية برمتها إلى ميدان صراع ديني إجتهادي، يكون الخاسر الأكبر فيه الدين أو بالأحرى الطائفة التي جَزَأت أحزابها السياسية المُستغلة رموزها الدينية أو وزعتهم حصصا بينها في ميدان صراع قائم على كم رقمي يقدم هذا الحزب إلى سدة الحكم ويبعد ذاك، والتجزئة في هذه الحالة نوع من التأسلم، يعزز الفرقة والتشتت التي يسعى الغير إلى إبقائها ماثلة في المجتمع العراقي، على وفق المبدأ السياسي المعروف "فرق تسد".

كما إن الفوز الذي يحققه الحزب على اساس التدين إستئثارا بالرمز الديني (أ) في مجتمع لم يع الديمقراطية ولم يتقبل نتائجها التقليدية في الربح والخسارة، سيثير حفيظة الأحزاب الأخرى للتدين والاستئثار بالرمز (ب) و (ج) ويخرجُ مشاعرهم العدوانية بإتجاه الحزب الأول، وبالتالي ضد الرمز الديني المستخدم من قبله أساسا للفوز، بحكم عملية الأقتران الشرطي التي تحصل حتما بين الحزب والرمز الديني، عندها ستخسر: العملية السياسية حيويتها. والطائفة وحدتها. وستخسر الرموز الدينية، سلطتها الروحية في الأفتاء والتوجيه، ومن ثم رفعتها في البقاء.

هذا من جانب ومن جانب آخر، فإن في الساسية إجتهاد يتسع إلى الخطأ والصواب، تبعا للمواقف والظروف، والخطأ في عراق لم تنضج فيه العملية السياسية بعد، ولم يكتسب فيه السياسيون الخبرة الكافية حتى الوقت الراهن، سيكون موجودا بقدر يفوق الصواب لأكثر من فترة أنتخابية مقبلة، وفي حالته سَتُعمَمْ أستجابة الخطأ على الرمز الديني الذي أستُخدمَ أساسا للفوز، عندها سيكسب الحزب جولة في الوصول الى الحكم، وسيخسر الرمز الديني كل جولاته في البقاء رمزا حيويا للجميع، وسيخسر الدين بعض من قدرته الروحية في الإصلاح والتقويم.

وفي الأنتخابات يسعى كل حزب إلى إنتقاد خطط  الآخر، وتخطئة برامجه الأنتخابية، والأنتقاد هنا سيزحف نفسيا من الحزب إلى الرمز الديني الذي سيدفع ثمنا من منزلته التي يفترض أن لايطالها الأنتقاد بأعمال دنيوية "سياسية" هو بعيد أصلا عن مجالها. 

وتأسيسا على ذلك وأمور أخرى كثيرة يمكن القول إن استخدام الرموز الدينية في السياسة والانتخاب نوع من الأسلمة السياسية، يؤثر السير في طريقها على الدين الاسلامي، ولا يقدم للسياسة ما يجعلها تخطو إلى الأمام.


أسلمة الإرهاب 

إن أستخدامات الدين الإسلامي لأغراض السياسة "التدين السياسي"، والتأسيس على مواقف المتأسلمين فيه، لأغراض خاصة قد أتسع في العقود الثلاثة الأخيرة، ليصل إلى أعلى مستوياته في العقد الأول من القرن الحالي، ويتعمم على مساحة واسعة من العالم الإسلامي، حتى بات التفجير الذي حدث في دمشق نهاية شهر ايلول 2008 على سبيل المثال، لم يحدث بمعزل عن معنى التفجيرات التي عادةً ما تَحدث في العراق، وإن كان منفذوه قد خططوا في دوائر تخطيط تنتظم في مجتمع غير العراق. ولم تكن الغاية الاستراتيجية من تنفيذه في ظروف سوريا الأمنية المستقرة، تختلف في مآلها عن الغايات التي وجدت لها مجالا فسيحا في ظروف العراق الأمنية المضطربة، وإن أختلفت السبل والأهداف تعبويا. ولم تكن التوقيتات الفعلية لهذا التفجير التي أنجزت متزامنة مع تفجيرات طرابلس في لبنان قد حدثت بالصدفة، وإن أختلف البلدان في وضعهما الأمني والسياسي، وفي قدرة أجهزتهما الأمنية والعسكرية على الضبط والسيطرة. ولم يكن فقه الإرهاب عند طالبان في أفغانستان، وعند شقيقتها طالبان في باكستان مختلفا عنه عند التوحيد والجهاد وأنصار السنة، وجيش الفاتحين، والمنشقين عن جيش المهدي في العراق بعد أعتماده " فقها للارهاب ديني النزعة" من جميعهم كوسيلة صدمة، لتكوين فراغات أمنية في جدار الأستقرار الأجتماعي للبلدان الإسلامية، تكون كافية للتسلل من خلالها وتوسيع رقعتها لنشر الهلع والأستخواف "الارهاب"، بأساليب أريد لها أن تكون شاملة للمجتمع الإسلامي.  

ولم تكن طريقة تنظيم الخلايا الإرهابية في الجزائر والشمال العربي الأفريقي مختلفة عن تلك الموجودة في الصومال والسودان، وفي كشمير والشيشان، ولا عن تلك الكامنة في أوربا ودول البلقان، وعلى أرض العراق، وأن أجتهدت الواحدة منها بسبل الكسب وطريقة التجنيد للوصول إلى الغاية المبتغاة بطريقتهم التي تضفي على الفعل المرهب صفة الدين إسلاميا. ولم تكن طريقة الإغواء المتبعة لاستجلاب الشباب المسلم العاطل، المحبط، المنكسر، المتشبث بآمال الآخرة منفذا وحيدا لحل الفشل الحاصل في الدنيا، إلى ساحة الموت، مختلفة بين مشارق العرب ومغاربهم، وإن تعددت الأشكال وتباينت المناشئ في مجتمع بقيت صبغته إسلامية. ولم تكن الرموز الموضوعة في أعلى السلم التراتبي للتنظيمات الإسلامية الإرهابية مختلفة من الناحية النفسية حيث العزلة والانطواء، والسادية المفرطة، وسعة التخيل، وكثر التبرير، والميل الى التكفير، والرغبة في الانتقام وإن تعددت بيئات أنحدارهم ونشأتهم التي أبقت محيطها إسلاميا.

أسئلة كثيرة تدور عن هذا التشابه وتقارب التوقيت، وتوحيد الغايات، وغزارة التموين، ورمزية القيادات، ونوعية النتائج، تواجه القارئ والمتتبع وعابر السبيل، تقود مع معطيات أخرى في نفس المجال الى الاستنتاج:

إن الإرهاب في هذا المحيط، وبأهدافه البعيدة، أسلوبٍ دولي مقنن لأسلمة فعل الإرهاب أي جعله إسلامي الطابع كصفحة من صفحات القتال في ساحة حرب تمتد من المحيط مرورا بأفريقيا متجهة إلى الشرق حتى الحدود الروسية، ساحة واسعة تشمل جميع الدول العربية وغالبية الدول الإسلامية.

إنه أسلوب مسيطر عليه وغير مكلف لإدارة الصراع مع هذه المنطقة وسكانها غير المتحضرين، بالمقارنة مع الأساليب الاقتصادية والعسكرية التقليدية، وإن لم يتم الاستغناء عنها تماما.

إن الشباب المتأسلم المتطرف، والمرضى المحرومين في مجاله باتوا هم الأدوات الفعلية لصفحة القتال هذه بعد أعتقادهم الواهم، أن السير في طريقه سيفتح الباب أمامهم واسعا لتحقيق أهدافهم في إقامة الدولة الإسلامية السلفية، التي يعد الخوض في غمارها أحد منابع مد وإدامة الصراع.

إن التأسلم، الذي أنتج الإرهاب المصبوغ بصبغة دينية إسلامية، أصبح في واقع الحال آفة، سوف لن يسلم من تبعاتها الكارثية من موّلَ وسهل العبور، ومن أفتى ودعى وشجع، لأن رذاذه المتطاير سيتجاوز أفغانستان والعراق، والجزائر والسودان، وإنه وسيلة حرب نفسية فعالة في إثارة الرأي المضاد للعرب والمسلمين، وحشد الجهد العالمي بالضد من حضارتهم المرشحة بسبب كثر أخطاء أبنائها إلى الزوال.                                        


الترهيب في ظل الأسلمة

في بداية صدر الإسلام أو في سنيه الإولى، شهدت مكة والمدينة أندفاعا شديدا في الدعوة إلى دخول الدين الجديد، فسرها بعض المسلمين آنذاك تفويضا سماويا باستخدام كل الوسائل المتاحة لإجبار الغير على دخوله، حتى أثار هذا التفسير مشاكل بين المسلمين وأبناء الأديان السماوية الأخرى في أكثر من مكان، وبسببها وأمور أخرى نزلت أكثر من آية تؤكد مسألة الأختيار الطوعي بعيدا عن الإكراه الجبري في شؤون الدين بينها: ( أفأنت تكره الناس أن يكونوا مسلمين).

( وأدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعضة الحسنة).

بهدف الحد من التطرف الديني "التأسلم" الذي أدرك المسلمون الأوائل نتائجه العكسية. وبعد كل هذه السنين بين بداية الدعوة الإسلامية ووقتنا الراهن يعود بعض الدعاة السلفيون لعموم المذاهب الإسلامية، إلى المغالاة في الدعوة الى القتل والتحريم وإلى الإكراه سبيلا للإرشاد والتقويم، وأداة لترسيخ حكم الدين، في الإدارة والسياسة على حد سواء، وبطريقة منفرة تثير الشك والأستغراب، فالمرور على مساجدهم مثلا يسمعنا: ألفاض، قوامها القتل. وخطب مليئة بالتحريض على القتل. وتعابير في الإلقاء مؤداها الغضب الذي يفضي الى القتل. والتفتيش بين أروقتها سرا يكشف لنا: كم هي الأموال التي تُجمع في هذه المساجد لتمويل ودعم عمليات القتل. وكم هي أعداد المجندين، لتنفيذ هكذا عمليات بين الشباب الذين فشلوا في تحقيق ذواتهم أو فشلوا بمواجهة أعباء الدنيا، فتوهموا بنعم الآخرة جزاءً للقتل. كما إن الإطلاع على أدبياتهم على سبيل المثال يرينا: آيات قرآنية مختارة حول التحريم والعقاب والعذاب، والقتل. يجري تكرارها بعد أن أجتزأت منها الأسباب التي جاءت لنزولها كرد للإعتداءات التي حصلت في حينها. وأحاديث بعضها ملفق أو مشكوك فيه تحض على الانتقام والتفريق والقتل.

وبعيدا عن ما يجري في بعض المساجد التي زادت أعدادها بما يفوق المدارس واماكن البحث والأستشفاء التي يحتاجها العالم الإسلامي أصلا للخروج من عصر الظلام وأستيعاب متطلبات الحضارة الحالية، وكذلك للصمود في مواجهة معالم الصراع مع العالم الآخر، أوجدوا منظمات وجمعيات لاتختلف في أهدافها واساليبها القسرية في الدعوة الى القتل، ونشروا نهج تفكير وسلوك بين أتباعهم ومريديهم يتأسس على الإرهاب الفكري والدفع إلى إرتكاب فعل القتل كنوع من العقاب.

إذ لا يكتف الواحد منهم بإطلاق لحيته على سبيل المثال، بل يطلب منك إطلاقها سنة نبوية لا تخلص من عذاب الآخرة إن لم تلتزم بإطلاقها، ولا تكتف المنقبة منهم بإخفاء معالمها بل تجهد نفسها بالضغط على من يصادفها من النسوة، لأن يحذين حذوها في النقاب، الذي لا تتحول المرأة حورية في الجنة دون أرتداءه في الدنيا قبل الآخرة. وهكذا يستمر الحال وتزداد المشكلة تعقيدا، بعد أن أصبحت مسألة:

1. لا تتعلق فقط بخطبة الجمعة في المساجد السلفية والأخرى القريبة منها حيث التحريض، وغسل الأدمغة وصيد الضحايا الموهومين.

2. ولا تقتصر على التحجب والنقاب الذي أخذ طابعا سياسيا رمزيا، يتكأ عليه البعض في المواجهة والتعامل مع الحاجات الإنسانية والاستحقاقات الدنيوية.

3. لا تتوقف عند حوار ديني مع أحدهم يحكم عليك في أثناءه بالرجم ودخول النار، لمناقشة علمية أجريتها مع سيدة فاضلة حول العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة.

4. لا تنتهي عند الحلقات الدراسية الدينية، التي تقيمها تلك المساجد لبعض الأطفال والمراهقين التي تحشر في أدمغتهم كل أنواع العذابات التي تجري في القبر ويوم المحشر والحساب، حد الفزع والخوف من الدين والدنيا وهم لم ينضجوا بعد.

5.  لتكون في وقتنا الراهن مشكلة مركبة تتعلق:

أ. بالاستخدام المنظم لهذه المساجد، وأولئك المتدينون المتطرفون لأغراض الترهيب الفكري الذي يجر المسلمين إلى خانة عنف يرى فيه السلفيون وبعض المسلمين المتاسلمين، سلاحا فعالا في جعبتهم، لمحاربة باقي الأقوام التي ينعتونها بالضلالة والكفر.

ب. بالتمسك الجاد، بهذا النهج سبيلا لوضع الشباب في حالة التيه، ومن ثم سحبهم إلى مجال العنف، الذي يبعدهم عن مهامهم العلمية والأجتماعية، وعن مسئولياتهم الاعتبارية في بناء أمتهم.

6. وتكون كذلك مشكلة خطيرة بعد أن:

أ. وقع هؤلاء المتأسلمون ومنظماتهم وأتباعهم ودعاتهم، وأوقعوا غيرهم في فخ الصراع الجاري بين الحضارات باتوا فيه بعلم بعضهم أو بدون علم البعض الآخر، أدوات تهديم فكري بيد من يريد التهديم.

ب. حملَّ وقوعها المثقفون والمتخصصون أعباءً حساما في أن يكتبوا، والشباب في أن لا ينساقوا، والسياسيون في أن يقفوا بحزم، والإعلاميون في أن يفضحوا، والآباء في أن لا يستسلموا. وهم في غالبيتهم غير قادرين في الوقت الراهن، والطريق الذي يسلكونه إلى الديمقراطية التي يريدون ما زال طويلا، وما زالت المطبات على جوانبه ليست قليلة.    

إن موجة التأسلم التي حدثت في العراق، والتي دفعت الجماعة الدينية المنتمية إلى هذه الكتلة أو ذاك التيار أن تتدخل بدلا من السلطة الرسمية للدولة، والشعبية للأب، تكمن خطورتها في إحتمالات تحول بعض أعمالها إلى سلوك قهري بين المتأسلمين المتطرفين، عندها سيمتد تأثيره على جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وسيعيق إعادة البناء المفروض للدولة، وسيعرقل أو يفشل مشاريعها في إرساء قواعد الديمقراطية، وهذا أمر ممكن الحدوث بنسب ليست قليلة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الدولة العراقية بقيت مقرونة بمعطيات العنف التعصبي الذي أنتجته الجماعات السياسية أو الطائفية، منذ مئات السنين، لأنها دولة أو مجتمع دولة قام في الأصل على فكرتي النوع في توصيف الأدوار، والقوة في توزيعها، وهما فكرتان لا تقبلان التعدد والاختلاف، ولا بالحوار والانتقال السلمي للسلطة، بل وعلى العكس من ذلك تنتجان التعصب لها ولرموزها السياسية والدينية، والعنف سبيلا لإخراجه نحو الغير، من خلال المؤيدين والاتباع، والدعاة الذين سيكونون متعصبين تماشيا لنهجها وتفاديا لشرورها، وطمعا في رضاها، عندها تكّون إرهاب الدولة، وبالمقابل تحول مجتمعها إلى مجتمع مجزء طائفي يميل إلى العنف سبيلا لحل الخلاف.


ــــــــــــــــــــ

* يحدث في مجال الاختصاص النفسي، أن يدخله أشخاص يعانون في الأصل من مشاكل نفسية يعتقدون في دخولهم إليه، السبيل الوحيد لحل مشاكلهم، فكان دخولهم الأخطر على حالهم النفسية وعلى الاختصاص الذي أتهم في بعض المجتمعات خاصة العربية أن أهله شلة مجانين،  وهكذا هو الحال أيضا في موضوع الأديان، التي يلجأ البعض من النافذين إليها من غير الأسوياء ، إلى التطرف في التدين، والمغالاة في الدعوة إلى التدين وتطبيق الطقوس الدينية، حد الميل إلى تطبيقها بالقوة، ومعاقبة من لم يطبقها بأقسى أنواع العقاب، وهذا ما حصل في العراق بعد التغيير، إذ توجه إلى التدين الإسلامي بعض الشباب الذين أنقلبوا بين يوم وليلة من حال المعصية والرذيلة المتطرف إلى نقيضها التدين المتشدد، حتى أخذ قسم منهم على عاتقه تقديم النصح والارشاد، والقسم الآخر تنفيذ العقاب الإلهي في مسائل تتعلق بإرتكاب الذنوب التي يقيمونها ذنوبا، ويحكمون مرتكبيها بالعقاب قبل يوم الحساب، من خلال جهودهم العشوائية أو ضمن تنظيمات دينية إسلامية نمت وتشكلت وأتجهت على نفس الأساس في النفاذ، فارتكبوا بسبب اساليبهم المتطرفة كثير من الذنوب التي لا يقبلها الإسلام، فحق تسميتهم بالمتأسلمين، وظاهرتهم بالأسلمة.    

بغداد: 24 آب 2010