أثر تركيبة المجتمع العراقي على جهود التغير إلى الديمقراطية

عام  

إن الأزمة التي تتمثل بالحالة الطارئة التي يعاني منها المجتمع العراقي إبان حكم صدام حسين والتي ستؤسس معالم التغيير مستقبلا جاءت من عوامل داخلية وخارجية متعددة أثارت ضغوطا وردود فعل سلبية لم يستطع هذا المجتمع، بما متيسر له من إمكانيات متاحة للسيطرة عليها أو التعامل الصحيح معها باتجاه حلها حلا مناسبا، كما غن بعض الخصائص السلبية التي تَرَسّختْ في الشخصية العراقية، كمعايير قامت الحكومة بتثبيتها أو توسيع تعميمها لمستويات أدت في نهاية المطاف إلى التأثير السلبي في الأزمة العراقية سواء باتجاه إطالة أمدها أو فيما يتعلق بشدة تأثيرها .

وفي هذه الورقة سنحاول الإشارة بقدر مناسب إلى تركيبة المجتمع العراقي أي إلى الجماعات الفرعية والثانوية التي يتشكل منها هذا المجتمع، سواء تلك التي تكونت وفقا للأصول القومية أو الدينية أو الطائفية أو تلك التي وجدت تبعا للانتماءات العشائرية والطبقية، ومن ثم إلى مستويات تفاعلها وتماسكها في المجتمع العراقي الأكبر، وتأثيره " التماسك " على الأزمة العراقية، وعلى جهود التغيير المنشود، بعد أن أكدت الدراسات الاجتماعية أن لدرجة التماسك ونقيضه التنافر الاجتماعي تأثيرات كبيرة على الفعل الجمعي للتعامل مع القضايا الهامة، والمصيرية للمجتمعات التي تتشكل عادة من جماعات فرعية أو ترابطات بشرية مختلفة لكل منها معتقداتها، وعاداتها واتجاهاتها وأفكارها الخاصة " نسبيا " (1).


تركيبة المجتمع العراقي السائدة

لم يكن القصد هنا إجراء مسح للأديان والطوائف والأقوام التي يتشكل منها المجتمع العراقي، ولا البحث في العادات التي تتقيد بها العشائر العراقية، ولم يكن كذلك لإجراء مقارنات في التقاليد بين الريف والمدينة، التي تميز البيئة العراقية، وإنما بهدف تسليط الضوء على طبيعة التركيبة الاجتماعية، ومقدار التماسك  للجماعات الفرعية والثانوية التي تتكون منها هذه التركيبة وتأثيرها على واقع العراق الحالي، وأزمته الراهنة، خاصة وإن العراق من وجهة النظر التخصصية لعلم الاجتماع  مجتمعا يتكون من عدة جماعات فرعية، وثانوية متداخلة، لكل واحدة منها بعض الخصوصيات، والتطلعات، والأهداف التي تميزها نسبيا عن مثيلاتها (2) اللواتي يشكلن مع بعضهن البعض تركيبة العراق الاجتماعية. وقبل استعراض هذه التركيبة لا بد من الإشارة إلى أن التماسك الاجتماعي مفهوم نقصد به في هذه الورقة: شعور الأفراد في الجماعات الفرعية والثانوية بانتمائهم إلى المجتمع الأكبر " العراق " والولاء له، وتمسكهم بعضويته ومعاييره وتعاونهم جماعات متعددة لتحقيق الأهداف المشتركة له، ثم الدفاع عن تلك الأهداف  حاضرا ومستقبلا.

وبالعودة إلى تركيبة العراق الاجتماعية وتقدير مستوى التماسك على وفق مفرداته المذكورة نجد أنه أي العراق ووفقا للتصنيفات السائدة يتكون من جماعات فرعية متعددة على النحو الأتي:

1. على الأساس القومي يتكون من العرب جماعة فرعية تشكل غالبية سكانه، ومن بعدهم الأكراد جماعة فرعية أخرى، ويليهم التركمان جماعة، وأقليات قومية أخرى مثل الآشوريين جماعة، والأرمن جماعة بنسب قليلة، ونجد أن لكل جماعة من هذه الجماعات أهدافها، ودرجة انتمائها، وهامش تحركها للدفاع عن تلك الأهداف كمعايير للتماسك.

ولو أخذنا حالة تلك الجماعات وبعض أهدافها للثلاثين سنة الأخيرة معيارا لقياس مستوى التماسك بين هذه الجماعات نجد أن غالبية العرب في العراق على سبيل المثال قد وضعوا الوحدة العربية أحد أهم أهدافهم ، وهو الهدف الذي لا يجد فيه الأكراد كجماعة أية مصلحة للتعاون مع باقي العراقيين العرب لتحقيقه، بل وعلى العكس من ذلك يشعر البعض من الأكراد أن تمثيلهم في دولة الوحدة العربية تفتيت تدريجي لمقومات وجودهم كجماعة فرعية لها وضعها الخاص، وهو شعور أوجد أهداف عند الأكراد تختلف عن تلك الموجودة عند العرب أو تتناقض معها في بعض الأحيان، من بينها الرغبة بتكوين كيان مستقل يحكم من قبلهم مباشرة، وما ينطبق على الأكراد يمكن تعميمه على التركمان الذي يرى البعض منهم أن هدف الالتقاء مع تركيا هو الأقرب لهم من وحدة عربية قد لا يساعدهم تحقيقها على الاحتفاظ بخصوصيتهم القومية، وهذا التناقض بالأهداف، والرؤية الخاصة لتحقيقها انعكس سلبا على الشعور بالانتماء إلى المجتمع الأكبر "العراق" وعلى اتجاهات التمسك بعضويته، وأخل بالتالي بمقدار التعاون بين تلك الجماعات لتحقيق الأهداف المشتركة.

هذا ولو نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى تتعلق بطبيعة نظام صدام ومسألة التغيير كمحور للأزمة العراقية الحالية، وأخذناه معيارا  لتقدير التماسك بين هذه الجماعات، نجد أن عموم العرب العراقيين يهدفون إلى تغيير نظام الحكم الحالي إلى آخـر ديمقراطي، فـي حـين يعتقد البعض غيـر القليل مـن الأكـــراد "رغم عدائهم المعروف لوجوده " أن بقاء الوضع كما هو عليه الآن لأطول فترة ممكنة يمنحهم فرص جيدة لتكوين مؤسسات، وأسس غدارية يمكن استثمارها لاحقا في عرض قضيتهم على الأمم المتحدة، وفي التفاوض مع أية حكومة مركزية قادمة تقف ضد أهدافهم في حكم أنفسهم فيدراليا، وهذه رؤية أثرت على التعاون، وتوحيد الجهد المطلوب لعملية التغيير " بؤرة الأزمة العراقية "، وأشرت تدنيا بمستويات التماسك.      

2 . وإذا ما إذا أخذنا متغير الدين أساسا للتصنيف فيكون المسلمون جماعة فرعية تشكل الغالبية العظمى من سكان العراق، ومن بعدهم المسيحيون جماعة، ويليهم اليزيديون جماعة وكذا الصابئة جماعة بنسب قليلة، ولبعض المسلمين في هذه التشكيلة خلال السنوات الأخيرة أهداف يتعلق قسم منها بتعميم التطبيقات الفعلية للشريعة الإسلامية على عموم المجتمع العراقي، تلك التطبيقات التي يتحسس المسيحيون وغيرهم من التوسع في إطارها، وللمسلمين طريقتهم في المحافظة على تفوقهم الكتلوي في الميزان الاجتماعي العراقي، وعلى فعل تأثيرهم على الواقع العراقي دفعت بتقادم الزمن إلى توزيع خاص للثروة والنفوذ والوظائف المهمة والأدوار القيادية بصورة يروها صائبة على ضوء غالبيتهم المطلقة، في الوقت الذي يرى فيها الآخرون من غير المسلمين تجاوز يخل بوطنيتهم، وبانتمائهم للعراق لمستوى أثر سلبا على تفاعلهم مع الجماعة الأكبر لتحقيق الأهداف المشتركة.       

3 . وفي داخل تلك الجماعات الفرعية هناك جماعات ثانوية، إذا ما وضعنا الجانب المذهبي أساسا لتصنيفها نجد أن بين المسلمين كجماعة " فرعية " هناك الشيعة جماعة تعد الأغلبية تليها  السنة جماعة، وعند المسيحيين نجد الكاثوليك جماعة، ومن بعدهم الآرثدوكس جماعة بنسب أقل، ولغالبية المسلمين الشيعة إحساس بان التعامل الرسمي لحكومة صدام معهم تعاملا يضعهم مواطنين من الدرجة الثانية " خاصة في الثلاثين سنة الأخيرة " فتكونت لديهم أهداف وتطلعات تتركز على بناء مجتمع يتمتعون فيه بمواطنة من الدرجة الأولى، في نفس الوقت الذي يرى فيه البعض من المسلمين السنة أن المحافظة على التوازن الطائفي في إدارة الدولة والحكم المعمول به حاليا مكسب تمت وراثته من العثمانيين، ينبغي المحافظة عليه حاضرا ومستقبلا، وهذا أمر انعكس بطبيعة الحال على رؤية الجانبين في مسألة التغيير المستقبلي موضوع الأزمة، وعلى الطريقة التي يعتقدونها صالحة لتحقيق هذا التغيير " رغم اتفاقهم على ضرورة حدوثه "، إذ أن القوى الشيعية المنظمة ترى في  الانتفاضة الشعبية والعصيان المدني والكفاح الشعبي المسلح"التي تحقق في مجالها وأبناء الشيعة تفوقا تعبويا " طرق ملائمة لعملية التغيير إلى المجتمع العراقي الأفضل، بينما يرى العديد من المنتظمين في القوى المعارضة من أبناء السنة أن التخلص من شخص الرئيس أو الانقلاب العسكري، وحتى التمرد من داخل حزب البعث "المجالات التي  يحققون فيها تفوقا تعبويا وسوقيا" هي الأكثر جدوى من بين الطرق الأخرى، وبالتدريج أصبحت وجهات النظر هذه أهداف سعى كل طرف لتحقيقها بمعزل عن الطرف الآخر، فكانت في الجنوب محاولات للانتفاضة والعصيان وعمليات ضد رموز الحكومة لم ترق إلى مستوى التغيير الفعلي، وكانت هناك العديد من النوايا الانقلابية لضباط في الجيش والحرس الجمهوري لم ترق إلى تحقق فعل التغيير، وكانت في مجملها جهود تعبر عن ضعف في التنسيق والتماسك الاجتماعي أطال أمد الأزمة .             

3. وفي إطار القومية والدين والمذهب كجماعات فرعية، وجدت أنواع أخرى من الجماعات الثانوية لها شأن وتأثير نسبي على التماسك الاجتماعي هي الطائفة والعشيرة والفخذ، وإذا ما توغلنا خطوات أكثر في المفهوم الخاص بالجماعات نرى في العراق بعض الخصوصيات ذات الصلة بالإقليمية أو بمعنى آخر هناك اتجاهات جماعية "ولو بشكل محدود" تهيمن أحيانا على مشاعر الانتماء لبعض المحافظات العراقية "بدرجات متفاوتة" وعلى أساسها أطلقت صفة للانتماء إليها "المحافظات" تقترب إلى حد ما من مفهوم الجماعات الفرعية مثل: المصالوة، والتكارتة، والدليم، والبصاروة … الخ. وبسبب التعامل الخاص لحكام العراق مع تلك الجماعات الثانوية تكونت أهداف لبعضها تختلف عن الأخرى، ففي إطار العشائر قربت إليها الحكومة بعض العشائر والأفخاذ، ووزعت عليهم أراضي ومعدات زراعية وأسلحة وأموال، وعينت منهم قادة فيالق وفرق ووزراء وأعضاء قيادة قطرية، وربطتهم بعجلتها أو بمصيرها حد الاشتراك بخطة أمن النظام في بغداد وباقي المحافظات الأخرى، وأعدمت في نفس الوقت شيخ العشيرة المجاورة، وسمحت بالتجاوز على أرضه، واستباحت حرمة داره، فكونت بفعلتها هذه نوعين من الأهداف المتناقضة تكون عند المجموعة الأولى: الدفاع عن الحكم والاشتراك مع الحاكم في إجهاض محاولات التغيير، والتخلص من الأزمة، وعند المجاميع الأخرى الوقوف في الصف المعارض والاشتراك في أكثر من محاولة للتغيير والقضاء على سبب الأزمة، وهذا تناقض في الأهداف لا يقتصر على العشيرة وحدها، بل امتد إلى أبناء المحافظات كجماعات ثانوية، إذ يُجند البعض من أبناء تكريت مثلا طاقاتهم لحماية الحاكم ودعم نظام الحكم ضمانا لمصالحهم، في حين لم يتوقف أهالي البصرة ومحافظات أخرى عن الاشتراك في محاولات إضعاف النظام، وتهديد مستقبله، فكانت أهداف متناقضة تماما تؤشر نتائج تطبيقاتها تعدد الثغرات في جدار التماسك الاجتماعي.

4. وهناك في المجتمع العراقي مراكز قوى طبقية رغم عدم جواز تعميم صفة الجماعة على وجودها من الناحية العلمية الدقيقة، إلا أن خصوصياتها ووجهات نظرها وقدراتها على التحرك والتأثير تقربها من مفهوم الجماعات الثانوية ولو مجازيا منها على سبيل المثال مجموعة أقرباء صدام، والحمايات الخاصة وكبار التجار ذو المصالح المشتركة مع العائلة الحاكمة، وأعضاء القيادة القطرية للحزب الحاكم وكادره المتقدم وكبار القادة العسكريين، التي ترى كل فئة أو جماعة منهم في الوضع الحالي تعاظما لنفوذها أو تضخما لثروتها أو اتساعا لمصالحها، وبذا ربطت مصيرها بمصير صدام ، وباتت أهدافها تتمحور حول مؤازرته والدفاع عنه بأي ثمن، في حين سُحقَ الموظفون والعمال والفلاحون والطلبة والمتقاعدون كجماعات ثانوية، وباتت أهدافهم القريبة تأمين لقمة العيش، والبعيدة منها أمنيات للتغيير لم يكونوا قادرين بسبب كثرة  الضغوط المسلطة عليهم من التعاون، والمشاركة في تحقيقها، وبمرور الزمن وقسوة الحياة التي ابتدعتها الحكومة أصيبوا باليأس الذي أبعدهم كثيرا عن معالم التجانس الاجتماعي.


مستويات التأثير على الأزمة وجهود التغيير

إن تركيبة المجتمع العراقي المذكورة شاعت تسميتها بين أوساط المثقفين والمفكرين والمعارضين العراقيين  في السنوات الأخيرة بالموزائيك العراقي، وهي تسمية تحوي في داخلها رغبة لدى هذه الأوساط بالمحافظة على الحد الأدنى من التماسك الكفيل بتحقيق فعل التغيير إلى المجتمع الديمقراطي، ورغبة باستثمار الجانب الإيجابي لتعدد الجماعات الفرعية في المجتمع الواحد مستندين على حقيقة مفادها أن تعدد الجماعات في التركيبة الاجتماعية يمكن أن يكون إيجابيا إذا ما جرى التعامل معه باتجاه زيادة مستوى التماسك، لأن تحققه أي التماسك يؤدي إلى إثراءٍ لواقع المجتمع، وكذلك إلى خلق التنافس الكفيل بتطور المجتمع، كما هو الحال في المجتمعات الأخرى التي تتكون من جماعات فرعية، وثانوية متعددة من المهاجرين ، مثل أمريكا وكندا واستراليا ونيوزلندا، التي أدى التعامل الصحيح مع واقعها إلى تماسك اجتماعي بدرجات معقولة ساهم في تطور تلك الدول وتقدمها. 

 لكننا وفي هذه االورقة سنتناول الموضوع من الجانب التخصصي، تناول نأمل أن لا يؤدي إلى نوع من الإثارة، لأن مستوياته قد وصلت حدا يستحق الدراسة والبحث وإن كان مثيرا لمن لا يدرك الحقيقة، ونتمنى أن لا يفضي إلى زيادة التحسس، لأن استعراض الحقائق بقدر معقول من العلمية يؤدي إلى العكس من ذلك أي التخفيف من الحساسية التي أوجدتها الحكومة لإسكات الصوت المطالب بحقوق الجماعات الفرعية ، كذلك يمكن أن يعين فهمها المصلحين أو الساعين إلى التغيير لإيجاد أهداف مشتركة تقتنع بها غالبية الجماعات العراقية، خاصة وإن تعدد الأهداف، وتلون سبل الوصول إليها، مع طبيعة الاستجابة للضغوط المسلطة في الوقت الحاضر كونت حالة فيها التماسك الاجتماعي بمستوى لا يساعد على حل الأزمة العراقية حلا مناسبا أو بمعنى آخر سيؤدي إلى إطالة أمدها وتعقيد طبيعتها أو حلها حلا تكون فيه خسارة العراقيين ليست قليلة، وهذا ما تؤكده الأمثلة القليلة الآتية:   

1. يتفق العراقيون بغالبية جماعاتهم أن الحكم الحالي حكما دكتاتوريا تعسفيا ينبغي تغييره، وجاءت الفرصة المناسبة للتغيير إبان الانتفاضة الشعبية في آذار عام 1991، وسقطت سلطة الحكومة في أربعة عشر محافظة عراقية، وتدخل العامل الطائفي بتشجيع من الحكومة وجهات خارجية ليُبَرزْ التناقض في الأهداف العامة للجماعات العراقية، ويؤكد ضعف التماسك الكفيل بنجاح فعل التغيير، واستمر عاملا مؤثرا في ديمومة الأزمة.

2. كانت كردستان العراق ساحة فاعلة لمعارضة الحكومات العراقية المركزية منذ عشرات السنين لأسباب بينها فشل تلك الحكومات في التعامل مع القضية الكردية، وتقصيرها في موضوع منحهم الحقوق القومية بشكل كامل، حاولوا بعد عام 1991 تنظيم صفوفهم، وباقي المجموعات المعارضة العراقية العربية للعمل باتجاه التغيير من ساحتهم الأكثر ملائمة، وبعد فترة اكتشفت جماعات منهم أن أهدافها على المدى البعيد قد لا تتأمن بطريقة العمل هذه، فانسحبوا عمليا من الساحة المعارضة العراقية، حاشدين جهودهم لتكوين واقع يرون أنه ملائم لأهدافهم، وبات البعض منهم أو جماعات منهم لا تتمنى التغيير أو بمعنى آخر لا تستعجل التغيير، لأن الزمن وحده من وجهة نظرهم كفيل بإيجاد واقع يحقق أهدافهم، واتجاهات من هذا النوع لا تمثل إلا أدنى مستويات التماسك الذي أضر كثيرا بجهود العراقيين عربا وأكرادا لحل الأزمة.

3 . ظهرت في العراق خلال العشر سنوات الممتدة من 1990 إلى 2000 طبقات يقاتل فيها البعض من التجار والأقربون مثلا أن لا ترتفع قيمة الدينار العراقي لأن ارتفاعه يقلل نسب أرباحهم، وإن بقي العراقيون الآخرون يئنون من وطأة التضخم والحصار، فكان قتالا يعبر عن ذاتية أصابت كثير من الشرائح الاجتماعية فأبعدتهم عن الولاء للعراق وأوقفت في تفكيرهم أي احتمالات للتعاون بين مُستغِل بلا رحمة ومُستَغَل بلا حدود لتجاوز الأزمة، وظهرت في هذه الفترة  مراكز قوى على مستوى الجيش والحزب الحاكم غالت كثيرا في تنفيذ أوامر الحكومة في التعامل مع سكنة الهور، وأبادت وجودهم، ومع سكنة الجبال وأزالت قراهم، فكانت مغالاة عطلت أي احتمالات للتفاهم بين الأقوياء القادرين، والضعفاء المتضررين لتجاوز الأزمة، وبرز في هذه الفترة نظام إقطاع من نوع جديد فيه قادة الحزب والدولة مالكين فعليين لغالبية الأرض الصالحة للزراعة، ومتحكمين دقيقين بمصادر مياه السقي الشحيحة، وفي نظامهم الجديد هذا تصادر الأرض القريبة من أرضهم، وتمنع مياه السقي عن الأرض المجاورة لأرضهم ، فكان تصرفهم صدمة لعموم العراقيين، وخوفا أبعدهم عن التفكير بماهية الأزمة.      

4 . أدى الواقع الحالي للفرقة والتشتت وتعدد الأهداف والمصالح إلى تنشيط العامل الخارجي في الأزمة على حساب العوامل الداخلية، وظهر الأمريكان الطرف  الأقوى في هذا العامل، وتوجهوا لتعزيز التمني عند العراقيين بالتغيير إلى النظام الديمقراطي، وناقشوا أفكارا بهذا الصدد مع مجموعات عراقية، قبل أن يزيلوا عنهم تهم الوقوف مع الحكومة ضد الانتفاضة وإطالة أمد الحصار وتدمير البنى التحتية العراقية وإسقاط رموز المعارضة العراقية واحتواء النظام الحاكم، فكان تدخلهم غير المفهوم عامل إحجام وضع الجماعات العراقية في سلسلة من تناقض المواقف وردود الفعل، تتفاوت شدته من قبول التعامل مع الأمريكان لعدم وجود البديل، إلى عدم الرغبة في التعامل معهم، ومن ثم إلى الامتناع عن التعامل معهم، لتمتد عند جماعات أخرى حد استعداء الأمريكان وتحريم التعامل معهم، وتفاوت حاد من هذا النوع قلل من فرص التفاعل بين العامل الخارجي ومجموعة العوامل الداخلية لحل الأزمة، وأبقاها ملفات مغلقة تفتح في الخارج  بالوقت الذي يراه أصحاب المصالح مناسبا لمصالحهم، ودفع بالعديد من العراقيين وبعض القوى المعارضة وأطراف حكومية إلى الشعور بالعزلة وضعف التماسك، وتبني مواقف المتفرج أو المنتظر لحل قد يأتي من الخارج لأزمتهم. 

5. إن التماسك الاجتماعي يعني التعاون والاستقرار والتضحية والمصلحة العامة، وغيرها مفردات كانت موجودة في المجتمع العراقي بمستوى يؤشر قدرا مقبولا من التماسك، انتهت في غالبيتها في الما بعد عام 1990 لتحل الفوضى والمصلحة الشخصية بديلا عن الاستقرار والمصلحة العامة.

وبسببها قام مسؤول كبير في الدولة على سبيل المثال بسرقة وتهريب الآثار العراقية إلى الخارج، وبفعلته هذه أعطى مثلا لملايين العراقيين أن الانتماء للعراق لم يعد شائعا.

وبسببها تعاون أكثر شخص في المجتمع لإيصال كتب ورقوق يهودية قديمة إلى إسرائيل لقاء مبالغ طائلة، وبتعاونهم هذا برهنوا أن الولاء للعراق لم يعد فاعلا.

وبسببها أعاد طبيب في مستشفا خاصا فتح جرح لمريض أجرى له عملية جراحية لعدم قدرته على دفع الأجور المتواضعة، وبعمله هذا أعطى مثالا على أن التعاون والالتزام في العراق مفاهيم لم تعد قائمة.

وبسببها وضع صاحب مطحنة شوائب متنوعة في الطحين الذي ينتجه، ووضع فلاح ترابا في محصول الحنطة الذي يبيعه، ووضع صاحب متجر الحصى الناعم مع البقول التي يعرضها، وقيامهم بمثل هذه التجاوزات تبين أن الاستعداد للتضحية من أجل العراق مفهوم لم يعد متداولا.

وبسببها قبل عراقي ألف دينار رشوة وإن تسببت في خسارة ملايين الدنانير للدائرة أو الشركة التي يعمل بها، وغيّرَ أكثر من ضابط شرطة إفادة القاتل ليجعله مجنيا عليه لقاء ألف دولار، وغيرها أعمال كثيرة لا تعبر عن الوهن وقلة الالتزام وضعف الروح الوطنية كمعايير للتماسك فقط ، بل وزادت من معالم الكره والمقت والعدوان التي يقلل وجودها من فرص النجاح لتكوين الفعل الجمعي المناسب للتعامل مع الأزمة.


سبل التعامل مع الواقع  

إن التماسك الاجتماعي الذي يحدد طبيعة الفعل ومقدار التعاون ونوع التضحية وشكل التآلف الكفيلة بالتعامل الصحيح مع الأزمة، قد أستهدف بشكل مقصود مثله مثل العديد من الجوانب ذات الصلة بالعراق كالبنى التحتية والمعالم الحضارية والإنجازات العلمية والعقول المفكرة، ولمستوى بات التكلم عن الإصلاح أو الترميم في مجاله والأزمة مسألة معقدة لعدة أسباب بينها:

1. إن أزمة ادارة الدولة والمجتمع وشدة الضغوط التي يعيشها العراقيون مسألة لم تعد الدولة العراقية طرفا فاعلا فيها على المستوى الخارجي على أقل تقدير، ولم تعد تمتلك مرونة أو هامش حركة يؤهلها للسيطرة على المتغيرات المؤثرة فيها بالمقارنة مع أطراف خارجية تمتلك الكثير.

2. إن الطرف الخارجي في الأزمة والاستعداد للتغيير أو الذي ساهم في إضعاف التماسك الاجتماعي، وأعاقد جهود التغيير فترة طويلة ما زالت مصالحه تتمحور حول بقاء الأزمة وتأجيل فعل التغيير، ويبدوا أنه غير مستعد حتى وقتنا الراهن للتعامل باتجاه حلها حلا فيه صالح العراق، والشعب العراقي للعيش في مجتمع ديمقراطس آمن. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية، فإن هذا الطرف لم يجد ندا يحاوره في موضوع المصالح والأزمة سواء من قبل حكومة صدام التي لم تستطع التخلص من عزلتها لتعود إلى التفاوض والحوار طريقا لتجاوز الأزمة أو من قبل الجماعات المعارضة العراقية التي لم تتمكن من توحيد صفوفها، وتنسيق مواقفها بالمستوى الذي يضعها الطرف الخارجي بمواجهته طرفا مناسبا للتفاوض فيما يتعلق بموضوع التغيير.  

3. إن حكومة صدام كأحد أطراف الأزمة، والتي ما زالت تتحكم بوسائل الضبط ، والتأثير في الداخل مثل " الإعلام ، والتعليم، والتوجيه الفكري والسياسي، والإجراء الإداري، والفعل القضائي … الخ "  ترى في أساليبها المتبعة مع الواقع العراقي ذو الصلة بالتمييز والترغيب والترهيب والإقليمية والعشائرية الأكثر ملائمة لتأمين أهدافها الاستراتيجية في الاستمرار بالحكم، وإن تسببت في تدمير التماسك الاجتماعي، وهي على وجه العموم غير مستعدة للتراجع إلى الوراء من أجل تماسك يمكن أن يزيد درجة قلقها. 

4. والمعارضة العراقية طرفا من أطراف التعامل مع الأزمة والتخطيط لمستقبل التغيير تعاني هي نفسها من اضطراب التماسك الاجتماعي بين مجموعاتها حيث الفرقة والتشتت وتناقض الأهداف وتعددها، هذا بالإضافة إلى أنها لا تمتلك وسائل كافية للتأثير على المجتمع العراقي تساعدها في الوقت الحاضر على رأب الصدع وإعادة تماسكه، وإن افترضنا شفاؤها من هذا الاضطراب، وانتقالها إلى مرحلة النضج الاجتماعي في وقت قريب.

إن الأسباب المذكورة وإن عبرت عن مستويات متدنية للتماسك الاجتماعي، وعن مصاعب في إمكانية إعادته في هذه المرحلة إلى مستوى يكون قادرا على الحسم في موضوع الأزمة، إلا أن البحث في مجاله ينبغي أن لا يتوقف، وإبداء الرأي والاقتراح في جوانبه ينبغي أن يستمر، وفيه يمكن الإشارة إلى أن طرح الموضوع بصيغ حيادية علمية جهد الإمكان تعد الخطوة الأولى بالاتجاه الصحيح تعقبها خطوات تتعلق بالمعارضة العراقية التي ينبغي أن تتنازل عن بعض خصوصياتها  الفكرية لصالح الوحدة العراقية، ومصلحة العراق المستقبلية، وأن تدخل في تآلف وتحالف بين المجموعات والفصائل تعطي من خلاله مثلا لباقي العراقيين أن يقلدوها ثم يؤمنون بها ويشتركون معها في جهود التغير، وتثبت من خلاله للطرف الخارجي أنها مؤهلة لأن تكون طرفا للتفاوض، وعليها أي المعارضة أن تسلط الضوء على الأفكار والآراء والأهداف والأمراض الاجتماعية التي أضعفت التماسك وأضرت بجهود التعامل مع الأزمة، وأن تبرز المعارضة الإسلامية الجوانب الفقهية المشتركة لجميع الطوائف، والمذاهب للتعامل مع واقع العراق الحالي، وان تقترب في برامجها إلى الصيغ القابلة للتطبيق بعيدا عن النظرة الطائفية، وأن يخصص الإعلام المعارض جزء من جهده لهذا الموضوع الحيوي، وأن تعقد له المؤتمرات العلمية الخاصة التي تقلل من هامش الفرقة وتنمي اتجاهات توحيد الجهد للعمل من أجل التغيير.

هذا ويتحمل العراقيون غير المنتمين للمعارضة العراقية وغير المرتبطين بالحكومة، الذين يمثلون وزنا في التركيبة الاجتماعية العراقية مسئوليتهم أيضا باتجاه قيام العلماء منهم والكتاب والصحفيين والأدباء والفنانين القادرين للكتابة في هذا المجال وكذلك الحوار وإلقاء المحاضرات، وإجراء المقابلات وعمل المسرحيات وتأليف الكتب والقصائد الشعرية بهدف التحذير والتوعية، لأن التعرف على طبيعة المشكلة كفيل بحث المجموعات على تجاوز أهدافها الخاصة من أجل العراق الديمقراطي لما بعد صدام ، والوعي بالتأثيرات الجانبية للمشكلة كفيل بصياغة أهداف مشتركة من أجل المستقبل الامن، والتعرف على العوامل المؤثرة في المشكلة كفيل بتكوين الفعل الجمعي للدفاع عن العراق المستقل، وهذه إن تحقق جزء منها نكون قد بدأنا التعامل مع أزمتنا تعاملا صحيحا يساعدنا في حشد الجهد المناسب للقيام بفعل التغيير، ويجنبنا المحاولة والخطأ التي أرهقت كاهلنا لنصف قرن من الزمان.       

 

المصادر 

  1. طلعت إبراهيم لطفي (1996) مبادئ علم إجتماع، الرياض .
  2. عبد الحميد لطفي (1982) علم اجتماع، دار المعارف، قرطاجة .


12/3/2001