لم يشك أحد في العراق أو خارجه أن نظلم البعث السابق في بغداد لم يكن له أن يتغير لولا التدخل الأمريكي، لأنه نوع من أنواع الحكم الذي يدير الدولة والمجتمع بشكل قسري شبه آلي لا مجال فيه للمشاعر الإنسانية، ولا وجود فيه لحقائق المنطق الطبيعية.

ومن جانب آخر لا أحد يشك أيضا أن الأمريكان وبعد تمكنهم من صدام وإطاحته تحولوا من محررين كما كانوا يؤكدون في لقاءاتهم مع الأطراف السياسية العراقية في الخارج إلى محتلين باعترافهم ومجلس الأمن الدولي من حولهم، وبسلوكهم في الإدارة والسيطرة، وتسيير حال البلاد.

وفي هذا المجال الحيوي لم يتصرف الأمريكان بطريق الصدفة، ولم تمليه عليهم وقائع معينة من داخل العراق أو خارجه، بل هو تخطيط مسبق أملته مصالح استراتيجية محددة دفعتهم إلى التعامل مع الواقع العراقي بصيغ تغلب عليها الأحادية في كثير من الأحيان، ومن  بين تلك الصيغ التي تهم العراقيين بالوقت الحاضر ما يتعلق بنظام الحكم الذي يرى الأمريكان أن إدارة مدنية فيها مستشارون عراقيون هي الأكثر ملائمة، والتي يرى فيها العراقيون إجحافا بحقهم دولة تأسست منذ العام 1921. هذا الموضوع السيادي إذا ما أصر عليه الأمريكان سيسبب لهم حرجا ليس قليلا في وقت مازالت الذاكرة العراقية والعالمية تحتفظ بوعود التحرير، وكذلك للقوى السياسية العراقية التي تعاملت مع الأمريكان والمطلوب منها التعامل مع العراقيين إذ ستجد نفسها عاجزة عن الرد على أسئلة الجمهور التي تزداد شدتها تدريجيا، وعاجزة أيضا عن اقناعم في التعاون مع السلطة الحاكمة بمسمياتها الجديدة.

وفي  خضم هذه التناقضات علينا أن نعترف أن هذا الموضوع من أكثر المواضيع تعقيدا على الساحة السياسية، وبعض تعقيداته تأتي من أسباب أهمها:

1. لم يجد بمواجهته الجانب الأمريكي بعد دخوله العراق وحدة رأي (معقولة) يجتمع من حولها السياسيون المنتظمون، والعراقيون غير المنتظمين تؤكد صيغة واحدة تلائم العراق ما بعد التغيير بعد أن توجه الرأي العام إلى النقد والتجريح وجلد الذات المبرح.

2. لم يتلمس استجابة شارع ضاغط عليهم، وعلى القوى السياسية الوطنية من أجل التحديد المناسب لصيغة الحكم المناسبة بعد أن غرق الشارع في التعبير عن مشاعر العدوان، والتعويض عن الإحساس بالحرمان بأعمال نهب وتجاوز على أموال الغير.

3. لم يتوقع من القوى السياسية العراقية وحدة فعل تؤشر الإصرار على ما يناسب العراق بعد أن تجزأت تلك القوى إلى فاعلة على الساحة وغير فاعلة.

قادمة من الخارج وأخرى مناضلة من الداخل.

قومية ووطنية، ودينية التوجه وعلمانية.

عربية المشاعر وغير عربية.

عشائرية المنحى ومجتمعية.

4. لم يواجه مواقف إقليمية عربية كانت أو من دول مسلمة تصر في السر، والعلن على إنصاف العراق وشعبه بعد أن وجدت غالبية تلك الدول والمجتمعات أنها متهمة من  الغرب بتهم شتى ... عليها أن تدافع عن نفسها في ساحة مليئة بالأخطاء والتجاوزات يصعب فيها الدفاع عن النفس.

.....الخ من تعقيدات بعضها خارج إنتاج العراقيين، ستحول ليس فقط دون حصولنا على حقوقنا في حكم أنفسنا، بل وكذلك دون تمتعنا بالعيش الآمن المستقر، وإعادة بناء مجتمعنا الديمقراطي كما كنا نحلم لعشرات السنين.

ومع ذلك فهي تعقيدات علينا أن نعترف بعدم وجود قوة من خارجنا ستقوم بإزالتها من أمامنا لتمهد إلى  تقدم بلدنا العراق، وعلينا أن ندرك أن الحقوق لا تمنح هبات من الخارج ، وإنما تؤخذ بالطريقة الملائمة.

والطريقة الأكثر ملائمة لما يتعلق بحصولنا على حقوقنا في حكم أنفسنا هي أن نتوحد.

وأن ينسى بعضنا أنه الأقوى والأنسب والأكفأ.

وأن نتوقف عن الهدم والتخريب والتجاوز ونتذكر أن آثارها سوف تطالنا جميعا.

وأن نعود إلى دعوتنا في تطبيق الديمقراطية الحقيقية كما هي دعوتنا قبل التغيير بعد أن أستبدلها بعضنا بأخرى على أساس الأمر الواقع.

وأن نتذكر أن في العراق طوائف وأقوام وأديان لها جميعا حقوق في عالم مفتوح يحكمه أقوياء بمنطق لا مجال فيه لأحادية الجانب والرأي والقرار.

وبعكسه سنجد أنفسنا قد ضعنا ومن ضيعنا أبناء وطننا، وليس فقط الأمريكان بتوجههم لإدارة البلاد إدارة مدنية مباشرة.

15/5/2003