في دراسة التجارب السابقة للجيوش، يُظلم الجيش العراقي في حال العودة للحديث عن تجاربه السابقة سواء من حيث الإدارة والإعداد المعنوي أو الأداء القتالي في الحروب التي خاضها في الفترة الزمنية بين 1980 وحتى 2003 على وجه الخصوص، إذ أن الإدارة العسكرية المهنية التي أمتلك فيها رئيس الأركان ومجلس الدفاع وقادة الفرق منذ التأسيس، الصلاحيات التي تؤهلهم إعداد الضابط والجندي إعدادا مناسبا لمهامه في الذود عن البلاد، وأدار فيها وزير الدفاع السياسة العسكرية الدفاعية العامة للدولة قد تحولت بعد العام 1968  إلى الإدارة الحزبية التي أصبح فيها الجيش وعموم القوات المسلحة منظمة حزبية، وأصبح فيها المكتب العسكري القيادة الهرمية العليا للجيش نزولا الى الفروع والشعب والفرق على مستوى الفيالق نزولا إلى الوحدات والوحدات الفرعية بطريقة أنتهت فيها صلاحيات القائد / الآمر الضبطية والمهنية، بعد أن بات عاجزا عن نقل جندي من فصيل إلى آخر وعن البت بترقية ضابط صف لا يرى فيها المسئول الحزبي ضرورة معينة، وتحولت فلسفة أو صيغ الإعداد المعنوي الفكري للعسكري من التأسيس على معايير الوطن والشرف وروح العسكرية العراقية إلى التوسع في نشر الشعارات الحزبية، وترديد الهتافات البعثية، والإيغال بتكرار الأجتماعات الحزبية إلى المستوى الذي بات فيه العسكري ملزما بتنفيذ الأوامر الصادرة من منظمته الحزبية ومسئوله الحزبي غير آبه بما يصدره الآمر المباشر وإن كانت رتبته العسكرية تفوق رتبة المسئول الحزبي، إذا ما أحس أنها أوامر ليس للحزب فيها دور أو أنها تمس بعض جوانبه، وبتكرار هذه الصيغ وكثر ترديد الشعارات وطول الفترة الزمنية للتكرار والترديد غاب العراق مفهوم للوطن في العقل العسكري، وحل محله المفهوم البعثي للأمة، وبالمحصلة تشكلت أفكار في العقل الجمعي العسكري العراقي لم تكن كافيه لتحفيز العسكري للإندفاع في القتال عن العراق، أبقته ولفترة قاربت الثلاثين عاما محكوما في أداءه القتالي المادي "غير المعنوي" بتأثير: الشعارات الحزبية التي يجد في غالبيتها وهمٌ غير قابل للتطبيق أو  أفكار غير قادرة على إثارة الحماس، وضغوط الخوف من العقاب الحزبي الذي تقل فيه المسافة بين حجز الثكنة والإعدام بعد أن خول المسئول الحزبي والآمر المنسب من الحزب بفرض هذه العقوبة القاسية ميدانيا في أكثر المواقف التي تعطلت فيها سلطة القانون العسكري للعقوبات، وبتوجهات الكسب وجشع التحصيل المادي التي دفعت العسكري إبان تلك الفترة الى الجري بكل الأتجاهات لإرضاء الأعلى "خاصة صدام" دون الخوض بتفاصيل الرضا فيما إذا كان يهم العراق أو كان مخلا بالمعايير والقيم العسكرية.

تلك كانت بعض أسس ومبادئ الإدارة العامة في إعداد العسكري العراقي مهنيا ونفسيا "معنويا" أو بالمعنى الأدق تلك كانت تجربته في هذا المجال للفترة التي أعقبت عام 1968 حتى عام 2003 والتي أنعكست سلبا على أداءه في معظم المعارك التي خاضها في الحروب التي حدثت إبان تلك الفترة الزمنية، إذ لو أخذنا على سبيل التحليل مستوى الأداء الفعلي لفرقه وفيالقه فرادا نجد أنه لم يكن بنفس المستوى ولا بذات الدافعية التي عرفت بها قبل أستلام حزب البعث للسلطة في العراق، ولو أخذنا أداء الجيش برمته في حرب الخليج الثانية (1991) والحرب الأخيرة (2003) نجد أن الصورة تبدو أكثر عتمة لأن الأمر لم يتعلق بمستوى أداء مهني في ساحة معركة محددة، بل وبموقف عام للجيش العراقي لم يقاتل فيه بالمعنى الصحيح للقتال بسبب: زجه في معركة يتفوق فيها الخصم المقابل له بنسبة تزيد عن 50 إلى واحد وهي نسبة تفوقٌ تعبوي وسوقي لا يجرؤعلى القتال بوجودها أي جيش في العالم، وتحديد أهداف القتال النفسية من قبل قيادته السياسية "الحزبية" من وحي الشعارات التي أنعدمت فاعليتها على التأثير بعد أن تركزت على الأمة العربية وإعادة توحيدها وبعثها واشتراكيتها وعدالتها التي يدرك العسكري العادي أنها بعيدة تماما عن دوافع الحرب وأسبابها التي تمحورت في الحربين الأخيرتين حول  طموحات صدام وانفعالاته ومستقبله في حكم العراق، بالإضافة إلى حالة التعب والوهن التي أصيب بها الجيش كنتيجة حتمية لزجه قسرا بحروب متتالية بدأت بالحرب مع إيران ومن ثم مع الكويت والتحالف الدولي والمهارشات التي بدأت بعد أنتهاء حرب الخليج الثانية وحتى الأخيرة التي مهدت للسقوط، وهي حروب دامت أكثر من عشرين عاما خدم فيها البعض خدمة إلزامية تجاوزت ربع عمره الأفتراضي في ظروف توتر وخوف وقهر لم تبق مجالا للمشاعر االوطنية ولا المعنوية كداوافع للقتال.

في ظروف إدارة كالتي أشير إليها يصبح من غير المنصف الحديث عن تجارب سابقة للجيش العراقي أو أنتقادها لأنها لم تكل ملائمة لأن تظهره بمظهره الحقيقي، ولم تكن فيها سياقات إعداد منتسبيه فكريا ومعنويا مواتية، ولا يمكن الطعن بدافعيته في القتال ولا يمكن إتهام منتسبيه في تلك الفترة الحرجة بالقصور في الرغبة بالقتال، لأنه لم يكن قتالا متكافئا، ولم تهيئ قيادته السياسية أدنى مستلزمات القتال، ولم يكن منتسبيه مقتنعين بدوافع القتال، على هذا يحق أن يقال في عملية التقييم المنطقي لتجارب هذا الجيش الذي واجه صعوبة في البقاء والأستمرار أنه كان ضحية ذاك الحكم وتلك الإدارة مثله مثل العراق، ويحق القول أن البقاء على 6 كانون الثاني من كل عام عيدا له هو أعتراف بنزاهة إنشاءه، وحسن مسيرته التي تخللتها شوائب ينبغي الاعتراف بها لتجنب تكرارها، والأهم منها هو الرغبة في أستمراره جيشا وطنيا تتحدد مهامه بالدفاع عن تراب الوطن، وتفتح أبواب التطوع إليه من كل أبناء الوطن، ويبقى رمزا لعراق ديمقراطي جديد يكون فيه بعيدا عن الحزبية التي ارهقته ثلاثة عقود، ويكون حام للديمقراطية التي تحتم بقاءه محايدا بعيدا عن معارك السياسة التي لا تنتهي باي حال من الأحوال، ويحق القول أيضا أن الحكومة استطاعت رغم كل الصعوبات التي واجهتها أن تبعده بقدر معقول عن معترك السياسة، وأستطاعت كذلك أن تحمي منتسبيه بقدر مقبول من الخوض في غمار السياسة، وتمكنت من إنتشاله من بين حطام العراق الذي تهدم، فأعادت تنظيمه من جديد بفترة زمنية مناسبة، وفتحت المجال إلى تسليحه ثانية رغم الصعوبات والقيود المفروضة دوليا، وهذه إنجازات تَسجلتْ للحكومة في مجال إعادة تأهيل الجيش العراقي تفتح الطريق أمام العراقيين الوطنيين بمطالبتها لبذل المزيد سواء في مجال التغيير الملزم لنظرة السياسيين السلبية إلى تاريخه وتجاربه السابقة، أو في إطار تحميله أو ضباطه وزر الماضي، وإلى التأكيد على ضرورة إنصاف منتسبيه ودعمهم وإعادة هيبتهم وأعتزازهم بذواتهم بعدما أثبتوا كفاءة وجدية وحيادية في قتال داخلي من أكثر أنواع القتال حساسية، لأنه وكما يقال: لا خير في أمة تمتلك أقتصادا قويا ومجتمعا رصينا دون جيش وطني قوي قادر على حمايتهما.


                                                                                       د. سعد العبيدي                       

                                                                                        6/1/2009